هي إذاً جدلية الثابت والمتحول ، المتغير مرة أخرى. قال هيراقليطس: لن تسبح في النهر مرتين؟ أما بارمينيدس فقال: لا جديد تحت الشمس! أعتقد أن هيراقليطس كان على حق, لأنه رأى الدولاب, لكنه امتلك نصف حقيقة! أعتقد أن بارمينيدس كان على حق أيضاً, لأنه رأى المحور, إلا أنه امتلك نصف حقيقة أيضاً!
الثابت الوحيد في الوجود هو التغير, وهو إما أن يُدرك بوعي كامل وإرادة تصوّب عليه, أو أنه انسياق مع سير القطيع البطيء! يُحدث الأول أثراً عميقاً يتجلى في طريقة التفكير واستعمال الوجود واستثماره, أما التغيير المفروض الذي استُقبل بمنطق اللاحول ولا قوة, فلا أعتقده تغييراً بل تقليد أو مسايرة, وهو لا يتحول إلى قيمة مضافة في حساب رصيد الفكر والسلوك, وطريقة استهلاك العمر, ولا يشكل بالتالي رؤية جديدة قادرة على فك طلاسم يحفل بها وجودنا, وغياب الرؤية يعني انعدام الموقف, والتحول إلى رقم إحصائي بارد في سجل عدد السكان أي إلى مجرد – نسمة – خاملة!
الثابت لدي أن الكتاب كان صديقاً حميماًً منذ الطفولة, ولعله ما سرّع انفلات الوعي من قبضة التلقين والمعتاد والمألوف والدفع نحو محاولات الاستكشاف بحثاً عن المسكوت عنه, والمنفي في الظلال, وما أجمله من بحث! شكّلت روايات بيار روفاييل( عندما تذوب الثلوج – زنبقة في الوحول ...) المتوفرة في مكتبة أبي زاداً حقيقياً لخلق عوالم من الرومانسية مفعمة بأريج الطبيعة, أعتقدني لم أفلت من شراكها حتى الآن – رغم أنني وبعد سنوات طويلة لم أتمكن من قراءتها ثانية, فأغلقت ما كان يحلق بي, وقد صار لوحة مستهلكة بهتت ألوانها – شغلني كتاب جبران خليل جبران الصغير – رمل زبد وموسيقى – ما دفعني للبحث عن أعماله الكاملة في مكتبة مدرستي الثانوية, أما الكتاب الذي شكّل فارقاً حقيقياً بالنسبة لي, فكان رواية ( ذهب مع الريح ) يتيمة مارغريت ميتشل الرائعة _ ربما هناك تولدت في أعماقي الرغبة في الكتابة خاصة وأنني قرأتها في الصف الأول الثانوي – توالت بعدئذ الروايات كبائعة الخبز, الأخوة كارامازوف, الجريمة والعقاب....
اقتحمت غادة السمان نوافذ أيامي عبر – عيناك قدري, لا بحر في بيروت, وعدد من أعمالها غير الكاملة – ختم الذاكرة بالشمع الأحمر, اعتقال لحظة هاربة....- افترستني كتاباتها, عشقت غادة, ثم كرهتها لأنها سبقتني إلى القيام بأشياء كثيرة كنت أود القيام بها أولاً, في النهاية ساد سيد الأحكام بيني وبينها, ومازلت أعشق هذه الدمشقية البرية. زرادشت نيتشه ( هكذا تكلم زرادشت ) خلخل أول الثوابت التي لم تكن ثابتة بما يكفي في أعماقي حقيقة, فثمة شعور غامض واظب على دفعي نحو البحث والقراءة. عندما قرأت زوربا كازانتزاكي, أحسست أن قطار الوعي اتخذ اتجاهاً آخر لسكّته. لم يغب الشعر طبعاً عن ساحة القراءة ومنذ المرحلة الإعدادية, فكان ديوان إيليا أبي ماضي وقصيدته الأشهر – الطلاسم – ثم ديوان المتنبي وكان الأقرب إلى نفسي, بعد ذاك تسيّدت أعمال نزار قباني الموقف. بما أنني أنثى شغلتني قضية الذكورة والأنوثة, وأحكام المجتمع الشرقي وأعرافه, والتي ما كنت لأفهمها – بل وأرفض جلّها – بحثت كثيراً وفي يوم من عام 1989 أهداني صديق كتاب – يوم كان الرب أنثى – لمؤلفته مارلين ستون ومترجمه الفذ حنا عبود يمكنني القول أن ذاك الكتاب أحدث انقلاباً في طريقة تفكيري ترتبت عليها فيما بعد نتائج على درجة من العمق والأهمية ( وقد ترددت في لعن ذاك الصديق أو شكره) وما فات – يوم كان الرب أنثى – أن يفعله بي, استكمله كتاب فراس السواح – لغز عشتار – الذي اعتبرته وحتى اليوم تعويذة تنجيني من ساعات ضعف أو حيرة خاصة صفحته الأولى التي تتحدث فيها عشتار عن نفسها, استطاع هذان الكتابان كأساس أولي تشكيل وعي آخر عن نفسي, وعبرها عن الوجود وكل مكوناته, هنا يمكن أن أحذر فعلياً من قدرة كتاب ما على صهر الوعي وإعادة تشكيله وصياغته بصورة أخرى قد تكون مغايرة تماماً. أي الكتب كان أكثر تأثيراً؟ سؤال ستبدو الإجابة عليه سهلة فيما يخصني, بعد ما ذكرته عن ذينك الكتابين, ولكن هل كان لهما أن يفعلا بذلك العمق لولا كل تلك القاعدة التي عملت على ترسيب فكر يرغب في البحث ويسعى للتغيير مرة عبر ترميم ومرة عبر تهديم كامل لأطر سابقة فرضتها عوامل لا رادّ لها؟! في مسيرة حياتنا ثمة أشياء كثيرة لم نسأل عن رأينا فيها, ؟ أوعن موافقتنا عليها, ولكن ثمة أشياء أخرى , كثيرة أيضاً, يمكننا اختيارها, والموافقة عليها أو رفضها, وهنا تكمن القدرة على التغيير, إنها الرغبة فيه, والبحث عن أدواته ومصادره التي تأتي الكتب والقراءة عامة في مرتبة متقدمة منها.