في هذه الرواية الرائعة يقول جوديه: يعود الراوي إلى صقلية أرض مولده بعد حياة قضاها في إيطاليا ويكتشف جزيرته من جديد وفي مرحلة معينة من الكتاب يلتقي ببائع برتقال وبرفقته زوجته وقد أضناهما الفقر، لم يكن لدى هذا البائع شيء آخر يبيعه سوى برتقالاته التي لم يكن أحد يشتريها منه لمرارتها وكانت هذه البرتقالات المرة ثروته ومع ذلك لا يكف عن لعنتها.
بين ليلة وضحاها أحب جوديه البرتقال وفي كل مرة كان يأكلها تتبادر إلى ذهنه برتقالات فيتوريني ويتراءى البائع الفقير مجدداً.
لقد غيّر هذا الكتاب تذوقه للأشياء إذ صنع لهذه البرتقالات قصة وأسبغ عليها مذاقاً جعلها الآن ثمينة جداً بالنسبة إليه، ما حصل مع لوران جوديه إن دل على شيء فإنما يشير إلى أي مدى تكون القراءة عبارة عن تأثير وتأثر ولقاء وتبادل وتعلم.
جوديه، واحد من الذين غيّر الأدب حياتهم من خلال القراءة والكتابة فكثير ما تؤثر رواية أو قصة ما في تغيير مفاهيمنا ونظرتنا إلى الحياة والإنسان وإن كان الأمر نسبياً يختلف من شخص إلى آخر حسب طبيعته، وربما يختلف مثاله عما حصل معي بعد قراءتي الرواية الأولى التي كان جزء منها مقرراً عليّ في مادة اللغة الفرنسية بالمرحلة الإعدادية.
الرواية هي (البؤساء) للكاتب العظيم فيكتور هوغو أما الشخصية التي بقيت ماثلة في ذاكرتي حتى إنني كنت أخشى أن أعيش بؤسها فهي الطفلة (كوزيت) الوحيدة لدى أمها التي أنجبتها بعد علاقة حب فاشلة مع حبيب خذلها وبعد فقدانها لوالدتها اضطرت أن تعمل خادمة إلى أن تعهدها الرجل العظيم (جان فالجان) الشخصية الأسطورة الذي سجن لمدة 19 عاماً من أجل رغيف خبز. كل قصص البؤساء التي تعرض لها هوغو لا تساوي بنظري جزءاً يسيراً مما عانته (كوزيت) التي دخلت الموسوعة الحرة (ويكبيديا) حيث لا يسجل فيها إلا الشخصيات المتميزة والأعلام إن هذه الرواية جعلت الخوف من الفقر والبؤس يلاحقني إلى أن اشتد عودي ولم تزل (كوزيت) بكل تفاصيل بؤسها وتشردها تجول في خاطري.
حررني من أميتي الوظيفية أو بالأحرى اختصاصي إذ كنت لا أرغب في قراءة كتاب سوى كتب الأدب إنه د. جوزيف كلاس الذي برع في الطب واستهواه الأدب فتفوق في المجالين معاً، سألني ماذا تقرأين؟ قلت له أي كتاب في الأدب، أهداني كتاباً له بعنوان (القلب بين الطبيب والأديب) قرأته فاستهوتني قصصه ومن خلاله تعرفت إلى تلك المضغة المحيرة وقرأته في أساطير الأقدمين عرفت لأول مرة أن تقليد دفن القلوب دلالة على حب رومنسي كبير، ففي كاتدرائية مدينة فارسوفيا دفن قلب (شوبان) الموسيقار البولوني العظيم وفي المكتبة الوطنية في باريس وضع قلب (فولتير) الكاتب الفرنسي الشهير.
أما قلب «ليفنغستون» الرحالة السكوتلاندي الشهير فقد طمر عام 1873 بين جذور شجرة عملاقة قرب مدينة إيلالة في إفريقيا الوسطى حيث كان يقوم باستكشافاته المهمة وللقلب في الشعر العربي حكايات وحكايات، فقد عني العرب منذ أقدم عصورهم بذكراه في أشعارهم ورغبوا في استخدامه كرمز للحب فإذا كان فنانو الغرب قد تركوا في لوحاتهم وتماثيلهم أعمالاً خالدة يشكل القلب فيها محور العمل الفني حققوها بالريشة والإزميل فإن شعراء العرب استطاعوا بالكلمة وبالكلمة فقط أن يحققوا قصائد خالدة.
علمني هذا الكتاب أن العلم لا يمكن أن ينفصل عن الأدب بأي حال من الأحوال فكلاهما يكمل الآخر.
أما كتاب (الإمام علي في الفكر المسيحي) للمؤلف راجي هيفا فقد أخرجني من قوقعتي أو نظرتي أحادية الجانب في الشخص تربيت على محبته لكنني لم أعرفه إلا من خلال ما كتبه عنه المسلمون، وحين قرأته بعيون الآخر وبقلم كاتب استطاع أن ينجز عملاً متميزاً ومهماً جامعاً ما يمكن جمعه من مراجع ومصادر تتعلق بدرراسة شخصية الإمام علي من وجهة نظر الباحثين والأدباء المسيحيين في الشرق والغرب ومن بلدان مختلفة.
أعترف بأن هذا الكتاب غيرني غير نظرتي إلى الأمور.
إذاً العبرة ليست في كون الكتاب أكثر شهرة ومبيعاً بل كم ترك أثراً في نفوسنا وكم علمنا وغيرنا وكم وسع آفاق معرفتنا بالعالم والكون من حولنا.