وهو الذي لا يعمر إلا بقدر ما يدمر. ومما يسوغ جمعها في كتاب واحد أنها كلها تصب باتجاه غاية واحدة، خلاصتها أن تجيء بمثابة أسانيد للفعل النقدي، بل حتى لنظرية في النقد الأدبي قد تصلح للالتحام بالمنهج، وذلك لشدة اهتمامها بالمعيار.
ولن يفوتني التنويه بأن هذا الكتاب يشبه كتاباً آخر سبق أن نشرته هنا في دمشق منذ سنتين أو ثلاث، وعنوانه «الشعر والحساسية» فقد جمعت فيه مجموعة من المقالات المكرسة للنقد الأدبي، اخترتها وثبتها في كتاب واحد خوفاً عليها من الزوال هي الأخرى. وفي ظني أن هذين الكتابين متواصلين أو متجانسين ، بل هما، على الحقيقة كتاب واحد بعينه.
ولعل مما هو ناصع أنّ منهجي في هذه المقالات يعبأ كثيراً بالقيمة، أو بقيمة النص الأدبي المنقود. وهو يؤسس القيمة على جودة التعبير عن صدق الألم البشري الذي يعرضه النص، بالدرجة الأولى، أو عن مكابدة الشر، ولاسيما الظلم والاغتراب والعزلة التي لا شفاء منها، والتي يعانيها المرء حتى حين يكون بين الناس. إنّ أي صنف من أصناف الكرب والمعاناة هو قيمة جلى في الأدب، وذلك لأن الحياة نفسها مأهولة بجميع أصناف الكرب والمعاناة والقلق والتوتر المنهك للنفس. ولهذا، فإنّ منهجي يضع الوجد والوجدان والضمير والحنين والأشواق على رأس المقولات التي ينبغي أن يعنى بها النقد الأدبي والأدب الحي في آن.)
ومع اهتمامه الشديد بالألم والشر والاستلاب والتخلع وانشطار الذات، فإنه لا يغفل الحب والجمال والفرح والحرية بوصفها بعضاً من نخبة القيم الكبرى في الحياة الإنسانية. ولا يخفى أنّ الغاية من الاعتناء بالجمال هي الالتقاء بالأغيد الأملد، أو التناسم مع الوسيم حيثما لاقاه المرء، كما لا يخفى أن كبار العشاق يتمتعون بقدرة نادرة على إنتاج الأدب العظيم. والغزليون العذريون، وكذلك دانتي وبترارك ورونسار، أمثلة ممتازة على صحة هذا المذهب. ومما هو محسوم أنّ الجمال غاية قائمة بذاتها، وذلك لأنه لا يصلح للعمل ولا للإنتاج بتاتاً. وهذه أهمية لايتمتع بها الخبز الذي هو وسيلة إلى غاية تتجاوزه أو تتخطاه. ومن دون هذا التناسم مع الوسيم، أو مع كل وسامة وحلاوة، مهما يك نوعها، لا يبقى سوى الرماد يملأ الشرايين ويحيل الحياة إلى سأم وخواء.
وهذا يعني السعي من أجل الحد الأدنى من التوازن، أو ترسيخ الفرح بوصفه المكافئ الأول للألم، أو من حيث هو تلك القوة التي تملأ الكفة الثانية من كفتي الميزان، بل قل هذا هو الثاني الذي يثني الأول أو يشكمه. فليس بالصدفة أن الواحد له ثان يثنيه أو يردعه ويحبسه داخل حدوده، ويمنعه من التحكم بالواقع، أو من أن يكون الوجود له وحده. وهذه هي المثنوية، أو المانوية التي أحسبها نتاجاً للثقافة البابلية العميقة والأصيلة، والتي لولاها لما كان العالم الراهن على ماهو عليه الآن.
ولكن هذا المنهج، بسبب الأهمية التي يوليها للألم، قد يوحي للمرء بأن المأساة (التراجيديا) المبنية على مبدأ من شأنه أن يجعل السقوط، أو الكارث، حتمية لا محيد عنها، ولكنها الحتمية التي تقضي بهزيمة الهيف أمام الجلف (هزيمة أوديب أمام طبع الأشياء القاسي). إنّ المأساة هي الأكثر استطاعة بين جميع الأجناس الأدبية على تخريج الماهية، أو الهوية الداخلية للإنسان والوجود في آن معاً .كما قد يوحي بأن ثقافة تعجز عن إنتاج الأدب المأسوي لهي ثقافة من الدرجة الثانية بالضرورة، إن لم تكن ثقافة منحطة إلى هذا الحد أو ذاك. فلا مرية في أنّ أدب اللحاء أكثر انتشاراً من أدب اللباب الذي تنتسب إليه جميع المآسي، سواء أكانت مسرحية أم روائية.
وقد يجوز الظن بأن وظيفة التعبير عما يندرج في الحياة من فصيلة الفاجع هي أسمى وظائف الشطر الممتاز من كل أدب حي. ولكنّ في ميسور المرء أن يضيف ما فحواه أن واحدة من أرقى وظائف ذلك الشطر الحي قد تتلخص في جعل الإنسان ساخطاً على هذا العالم الطافح بالشرور والآلام، ولا سيما الظلم والعدوان والابتزاز، وخاصة في زمن الصناعة هذا، وهو الذي أحال الناس إلى مسوخ أو كائنات من أشباه البشر. وهذا السخط هو أعظم أثر وجداني يمكن للأدب أن يخلقه في النفوس، ولا سيما تلك المطهمة الباذخة. وما من جنس أدبي يسعه أن يرسخ هذه العداوة بين النفس والعالم كما يفعل الأدب المأسوي حصراً.
ويتضمن هذا المذهب ما فحواه أنّ القلق هو أُسّ الأهمية أو أُسّ القيمة، وذلك لأنّه من سلالة الصدق، أو من شيعة الهم، ومن أتباع نحلته الصارمة. كما تندرج في هذا المذهب فكرة مؤداها أن الشخصيات القلقة، من أمثال الحلاج والمعري وسقراط، هي التي تحوز أعلى القامات بين الناس جميعاً. وعندي أنّ الرضى لا يملك البتة أن يكون مبدعاً أو خلاقاً في أي زمن من الأزمان، بل لعله لا يزيد عن كونه صنفاً من أصناف الاستسلام والقعود، بل الركود والتعفن في الساكنات.
وقبل الختام يؤكد يوسف سامي اليوسف : (على أن منهجي لا يزعم بأنه قد حل مجمل المعضلات التي يفرزها النقد الأدبي، كما أنه لا ينبذ سواه من المناهج، اللهم إلا ما كان منها فاتراً موهوناً. فهو يعترف بأنها جميعاً لها الحق كاملاً في الوجود، فضلاً عن الحق في المغايرة والاختلاف. فلا ريب في أنّ من طبائع الكائنات أن تتساكن الأضداد داخل البنية الواحدة. ولهذا، قد يجوز الزعم بأنّ المرء لايعيش أي يوم إلاّ بمقدار ما يموته بالضبط. فالأشياء مبنية «على سر الازدواج»، أو على امتزاج النقائض في سبيكة واحدة. وربما جاز الذهاب إلى أن النص الأدبي لا يكون عظيماً إلا بمقدار ما تتصارع الأضداد في جوفه المحتدم العارم المنداح. وهذا هو شكسبير الذي أراه أكثر مثنوية من ماني نفسه.
وأخيراً، أرجوا ان تصادف هذه المقالات استحساناً وقبولاً في الأوساط الأدبية، فأنا لا أملك أن أكتب خيراً منها في هذا الطور الشائخ من أطوار عمري الطويل.)
الكتاب صادر حديثا عن الهيئة العامة السورية للكتاب.