ربما لن نتمكّن من تلمّس عمق الحالة المبتغاة و المرتجاة فهماً صريحاً أو تلميحاً مما يعرضه علينا الصحفي و الشاعر سامر محمد إسماعيل..
الذي يقف اليوم مخرجاً لنص الروائي غابرييل غارسيا ماركيز (خطبة لاذعة ضد رجل جالس ).. و معدّاً ذاك الإعداد المطواع ليناسب الحالة المحلية.
هل كنا أمام مونودراما أجادت بتقديمها الممثلة (روبين عيسى ).. مونودراما فردية شديدة الخصوصية.. أم نحن في (ليلي داخلي )أمام نوع آخر من المونودراما ينفلش و يتشعّب ليغدو مونودراما (جماعية ).. و ما صوت (روبين، وداد )سوى صوت فردي ظاهرياً.. ينوب مناب عمق وجع جماعي يمتد على مساحة وطن..
و بالتالي نحن أمام حالة (ترميز )مشغولة بعناية.. لاسيما حين نتقن فكّها و إعادة تركيبها و مفصلتها من جديد على وضع بلد بأكمله..
الأنثى فيه ليست سوى رمز لكل ما هو حقيقي إنساني شفاف يبتغي الحب و الصدق و الأمان.. و الحديث لا يعني انحيازاً للمرأة.. فهي تمثل نموذجاً إنسانياً لا أكثر.
و الزوج (أدّى الدور بسام البدر ).. يمثل وفقاً لتوصيفها كل ما هو وصولي.. متسلّق.. انتهازي.. راكب لأمواج السياسة.. مثقف و رجل أعمال.. يساري و بورجوازي.. محاضر في الجامعات و نجم إعلامي بين المحطات.. إنه تركيبة عجيبة غريبة ينخرها سوس الخيانة و اللاانتماء.
و على حين غفلة من الزوجة كان أن نفد هذا السوس إلى عمق حياتها فدمّر أساساتها و ظهر على هيئة مرض ابنها و خراب بيت الزوجية.
اعتماداً.. على رمزية المقصد فخيانة الزوج، بتعميمها، تغدو خيانة لأرض و لوطن.. ما الزوج فيها سوى نموذج لزمرة (متعمشقي )جسور الوصول إلى المال و المناصب البرّاقة.. المارقين في دهاليز الصفقات المشبوهة وتبييض الأموال.. السالكين أقبية النفاق الاجتماعي و الإنساني و السياسي.
هكذا تنفتح مسارب (ليلي داخلي )متحوّلاً ليلاً طويلاً ليس خاصاً أو فردياً.. و ليس داخلياً.. إنما خارجي عام شامل.. تنسحب ذيوله لتطغى على ليالي مدينة.. على ليالي بلد بحالها.
ليل (إسماعيل )ينفتح واسعاً على أوجاع دمشقنا.. على أوجاع سوريتنا.. ليل فيه الكثير من عتمة الخيانة و ظُلامية السمسرة بالأوطان.
على خجل و حياء يبوح العرض بإسقاطات كان لابد من إيجادها.. لدى سحبه من خطبته المعلنة و إدخاله في سياق اللحظة الراهنة المعاشة..
إذاً.. هل تراها مرّت صورة تمثال أبي العلاء المعري (منزوع الرأس )التي عُرضت في الشاشة.. دون أي قصدية أو غاية..
أليس عرضها مليئاً بعشرات الإشارات و الغايات.. أليس معبّراً و ناطقاً و يُحيل بشكل أو بآخر إلى ظُلامية ممارَسة من قبل خونة الفكر و الإنسانية..؟
على هذا.. يتحرّر (ليلي داخلي )من انغلاقه على أوجاع أنثى تقدّم خطبتها اللاذعة ضد رجل.. يتحرّر من نسويته (الظاهرة).. من كونه أحادي المقصد.. يتخلّص من حجزه في زاوية رؤية واحدة و تفسير وحيد.
هل كانت الخاتمة الغنائية بصوت سناء موسى (يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي.. )إلا تأكيداً على رمزية العرض و عمق مقصده أكثر من ظاهريته.. ؟
القيمة الأكيدة و المضافة في اختيار هذه الأغنية أنها كانت بمطلع (نجمة الصبح ).. إيماءة مبطنة إلى وجوب طلوع الصبح بعد كل ليل.
بعيداً عن كل ذلك.. بعيداً عن عمق المقصد.. يغدو العرض مجرد مرثية زوجة تبكي قديم حبّها و حلو أيامها مع زوج خُدعت به.. مثّل عليها الأخلاق و القيم النبيلة لتنكشف الأمور، نهايةً، على حقيقته الزائفة المخادعة.
في العرض ثمة الكثير من بكائيات.. صراخات.. استجداءات.. تلاوين عاطفية.. حيرة إنسانية.. ضياع.. كره.. حب.. نفور.. قبول.. هيستيريا من الوجع الناطق و كلّها عبّرت عنها (روبين عيسى ) بأداء جسدي يتفجّر على الخشبة.
و هنا.. يلعب المخرج على ضديّة (الأداء )..
فنحن أمام كتلتين جسديتين.. الأولى كتيمة صامتة (الزوج ).. و الأخرى تتفجّر حركةً.. صراخاً.. و تعبيراً (الزوجة )..
الأولى تصدّ الفعل.. و ربما تمتصّه.. و الأخرى تُعيد إطلاقه و إرساله مراراً و تكراراً في وجه ذاك الحائط البشري الذي كلّما زاد صمتاً زادت قوة فعل الطرف الآخر.. و من هنا تبدو أهمية وجوده (فيزيولوجياً ) على الخشبة.. هو (فاعل ) و فعله (الصمت ) المؤثر و المحرّك.
أيضاً هناك ضدية أخرى وُظّفت بصرياً عبر الديكور الذي كان رمادياً في ركن الزوج دلالةً على طباعه الشخصية الرمادية.. و أبيض في ركن الزوجة دلالةً على وضوحها و صدقها.
إضافةً إلى استخدام شاشة عرض زُرعت في عمق الخشبة.. وسيلةً لتمرير حالة بصرية (انترنت، فوتوغراف )تدعم السياق الكلامي و مونولوجات الزوجة. كما وُظفت لتوليف مادة سينمائية تزاوجت و تمازجت مع أغنية (نجمة الصبح )فكانت مشهدية مناسبة لها.
في (ليلي داخلي ).. لم يكن ليلنا داخلياً.. بل مسرحياً بامتياز.. وسط زحمة بشرية غطت صالة مسرح القباني و ملأتها .. و كما لو أننا نعبّ نفَساً منتعشاً و منتشياً بروح الطقس المسرحي الذي أعاده العرض لأروقة مدينتا بعد طول انتظار.