من نهري دجلة والفرات ومجرييهما في الأراضي السورية والعراقية يرجع عهدها إلى أكثر من عشرين ألف سنة. وقد وجد أعضاء بعثات تنقيب عالمية آثاراً مادية تدلّ على قيام ثقافة راقية في مناطق متعدّدة، يعود تاريخها إلى أربعة آلاف وخمس مئة عام قبل بداية التأريخ الميلادي.
وتحمل الآثار والدلائل المادية العائدة للألف الثالث قبل الميلاد كثيراً من ما يؤكد أنّ حضارة السومريين في تلك المنطقة كانت متقدمة بصورة واضحة، قياساً لما ساد الشرق من أحداث وممالك في تلك الفترة التاريخية. فذكر «بول ماسون ـ أورسيل» لدى حديثه عن «الفلسفة في المشرق» وجودَ فكر «ميتافيزيقي» جسّدته لغة «مصطلح» واضح الاختلاف عن لغة عامة الشعب، ووجود مكتبات حافلة بصنوف من المعلومات والإحصاءات والمعارف.
كما ذكر «هورست كلينكل» في كتابه «آثار سوريا القديمة» أنّ تلك الثقافة رعت الشعراء والمربّين والعلماء والمؤرخين، وكان منهم «أشخاص عكفوا على كتابة تاريخ بلادهم القديم وتسجيل مآثر أجدادهم، فكتبوا قصصاً عن بداية الخلق، وعن جنّة بدائية، وعن طوفان مروّع غمر تلك الجنّة وخرّبها عقاباً من الآلهة على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين».
الشعوب والسمات اللغوية
تشير المراحل التي مرّت بها الآثار اللغوية المكتوبة التي تتوافر بين أيدي الباحثين المقارنين إلى وجود سِمات فارقة للمعطيات النفسية لمستخدمي اللغة، يمكن رصدها بصور متعدّدة وتبعاً لعديد من المقاييس والقواعد، ولاسيما بالنسبة للفترة التي تلت وضع السوريين في «أوغاريت» أول «نظام قرائي» يقوم على استخدام «رمز كتابي» للحرف اللغوي الواحد، الذي يمثل بدوره «صوتاً منطوقاً» قابلاً للإصدار في غياب الشخص الذي نطقه، ثم لحقه ما أنتجه الفينيقيون ونشروه من نظام لغوي «ألفبائي» كسابقه، حملوه مع ورق «البردي» عبر الموانئ، واستفادت منه ثقافات عديدة أخرى.
وتشير دراسات تواريخ الأفكار إلى أنّ مجموعة من المشتغلين بقضايا اللغة في البلاد اليونانية، في القرن السادس قبل الميلاد، قد سبقت نظراءها لدى الشعوب الأخرى جميعاً حينما أظهر بعض أعلامها «السفسطائيين» من المعلّمين والمحامين والفلاسفة والأطباء أنّ «صياغة ألفاظ» الجملة في الكلام ليست هي المؤشر الوحيد الذي يحمل «المعنى» من «المرسِل» المتكلّم أو الكاتب إلى «المتلقّي» السامع أو القارئ.
فقد كان أولئك المفكرون روّاد حركة الدراسات الاجتماعية في شكلها الواقعي، وارتباطها بالنظامين المجتمعي والنفسي بين الناس، وأول مَن نظر إلى الحياة الاجتماعية باعتبارها نتيجة لسلوكات ومواقف «قابلة للتعديل» أو التغيير، وعدّوا اللغة «أداة للتعبير» بين مستخدميها، انطلاقاً من قناعات وبراهين تختلف بحسب وجهات النظر والظروف المرافقة.
واتخذ السفسطائيون مواقف مضادة من الفكر الغيبي أو الميتافيزيقي الذي كان سائداً آنذاك في المجتمع اليوناني وغيره، ويرتكز على «الكلّيات المجرّدة والعموميات المطلقة والقضايا المسبَقة والمسلّمات الثابتة». ووجهوا انتقاداتهم للتفسيرات «الأسطورية» والعقائد «الخرافية» وقالوا بضرورة النظر إلى مشاعر المواطن الفرد وحقوقه ورغباته، وتنظيم الحياة الاجتماعية بين الناس على أساس «المصالح المشتركة» والرغبة في استمرار التعايش.
وتظهر المتابعة الفاحصة أنّ جهود المفكرين الذين بنوا على هذه المنطلقات النظرية هي ما أوصلنا في العصر الحديث، وخاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين، إلى ما يمكن وصفه باسم «علم نفس اللغة» الذي يميّز المختصون فيه بين شقّين: نظري وتطبيقي، رغم اختلافهم في تحديد محتوى كل منهما، نظراً لتعقيد الظاهرة اللغوية ذاتها وأمور منهجية واعتبارية أخرى.
ويرى بعض الباحثين أنّ علم النفس اللغوي يدرس ظهور مقاصد مستخدم اللغة ومشاعره في شكل إشارات صوتية «لسانية» ورموز مكتوبة تتكامل في اللغة، والطرق التي تمكّن مستخدماً آخر للغة نفسها من تأويل تلك الأصوات والإشارات المكتوبة.
وهذا يعني أنّ علم النفس اللغوي يتتبّع أيضاً كيفيات اكتساب اللغة وقيام الأنظمة اللغوية بوظيفتها بين المرسِل والمتلقّي، وطرق الأداء اللغوي ووضعيات استخدام اللغة وآليات تكييفها وتطويعها، والتغلّب على العوائق التي يصادفها مستخدمو اللغة في أثناء ذلك كله.
وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أنّ أول استخدام لتعبير «سايكولوجيا اللغة» بالمعنى العلمي التجريبي قد حدث في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بعد إرهاصات ومحاولات تنظيرية متنوّعة؛ وذلك للحديث عن آليات استخدام اللغة اليومية في إطار اندماجها بفاعلياتنا النفسية المتنوّعة، والاستفادة من طرق علم النفس في سبر أغوار اللغة وغناها، وتحسين طرق تعليمها في القراءة والكتابة ومعالجة عيوب النطق.
وأذكى هذا النوع من الدراسة ما كان الفيزيولوجيون قد قاموا به من دراسات في «وظائف الأعضاء» شمل بعضها أجهزة التصويت والاستماع والكتابة والابتكار، وما قام به علماء الرياضيات من إنجازات حول «التجريد» ووظائفه الفكرية، أي مجموع ما يدخل في حدوث اللغة على المستوى العملي الإجرائي بين الناس؛ هذه الظاهرة التي اعتبرت حتى الآن أكثر أشكال «التفاهم» نضجاً بين الكائنات البشرية الحية في ما يعرفه الدارسون عن هذا العالم.
وهناك من المختصّين باحثون يرون أن «العمليات الفكرية» المرتبطة باللغة والعلامات تختلف بصورة واضحة عن ظواهر نفسية متنوّعة عديدة، ولذا لا بدّ أن يكون الباحث في سايكولوجيا اللغة على اطلاع بمضامين اللغة التي يدرسها بشكل تفصيلي عميق، إضافة إلى معرفته متطلبات علم النفس العام التي تشغل اهتمام الباحث السايكولوجي، كالإحساس والإدراك والتفكير والانتباه والتخيّل والذكاء والإبداع وغيرها، إضافة إلى ما تتطلبه البحوث التخصصية.
النظري والتطبيقي في سايكولوجيا اللغة
سبقت الإشارة إلى أنّ المشتغلين في البحوث اللغوية من السايكولوجيين يتفقون على التمييز بين النظري والتطبيقي في غالبية بحوثهم العامة التي تتناول المسائل اللغوية الخاصة، رغم وجود خلافات طرائقية ومنهجية ومدرسية متنوعة بينهم وضمن الاتجاه الواحد، بل ضمن إنتاج الباحث الواحد أحياناً في الفترات الزمنية المتتابعة أو في الدراسات ذات الموضوعات المتباينة.
ويعود بعض أسباب ذلك إلى أنّ ما يصلح في دراسة لغة معيّنة من معطيات ومقدّمات وإحصاءات واستنتاجات، قد لا يصحّ الاعتماد عليه في دراسة لغة أخرى، بل قد يكون الاعتماد عليه ضاراً في كثير من الحالات الأخرى، حيث تكون «الأسر اللغوية» مختلفة بين تلك الدراسات ذات الأغراض القابلة للتفصيل الخلافي ونتائجه الممكنة.
إلا إنه يمكن القول بأنّ الاختلاف بين الباحثين يكون أوضح ما يمكن في الموضوعات النظرية من دراسات سايكولوجية اللغة، ويمكن للمختصّ أن يلاحظه بسهولة أو دون كثير عناء. وينطبق هذا على الدراسات التي تتناول نظرية اللغة ومناهج البحث فيها، والأسس المنهجية للتحليل اللغوي، وطبيعة العلاقات المؤثرة في وجود اللغة المجتمعي، وطرق الاستنتاج في البحوث اللغوية.
وتتوزّع هذه الدراسات على بحوث مخارج الحروف وأعضاء النطق وأوزان الأصوات، وبُنية الكلمة وتنظيم العبارات، وتطوّر الضوابط اللغوية عبر التاريخ، والعلاقة بين الرموز اللغوية ودلالاتها.
كما يمكننا القول إنّ شقّة الاختلاف تبدو أوسع بين الباحثين في مجال الموضوعات التطبيقية من بحوث سايكولوجيا اللغة، التي تدخل فيها دراسات الشروط البيولوجية لاكتساب اللغة عند الأطفال والكبار، وتأثير المجتمع في وجود اللغة وتحصيل مخزونها، ووسائط تعلّم اللغة ومعاجمها والتقنيات المتنوّعة المتاحة لذلك.
ولذا ذهب غير باحث إلى الإقرار بوجود تعقيدات في بحوث سايكولوجيا اللغة ليست من اختصاص علماء النفس، تشكّل حرفاً لمسارات البحث العلمي وتوجّه إلى قضايا ليست من اللغة بالمعنى الدقيق، وعدّها من التشويهات الطارئة، ولاسيما في حالات خلط البحوث اللغوية «الصِرف» أو الأصيلة ببحوث مطالب الاستخدام «الفنّي» المستحدَثة للغة أي ما جرت العادة على تسميته «الأدب»، على نحو ما أظهرتُه قبل أكثر من ثلاثين سنة في كتابيّ «النثيرة والقصيدة المضادة» و»مشكلات في النقد الأدبي».
وقد ذهب المفكر التربوي «جون ديوي» إلى ضرورة اعتبار «التواصل» هو الوظيفة الأساسية للغة، فعدّ «التعبير» نوعاً من التواصل، في إشارته إلى أننا نخسر كثيراً من فحوى الدراسات الأدبية واللغوية وغنائها بسبب استبعاد «العامل الاجتماعي» حيث تُعالج اللغة في أغلبية كتب التربية على أنها «مجرّد تعبير عن الفكر».
فديوي أقرّ أنّ اللغة «أداة منطقية» فعلاً، لكنه رأى أنها ـ قبل كل شيء ـ أداة «اجتماعية» وسبيل للتفاهم، فهي أداة يشترك في استخدامها الفرد مع الآخرين لتبادل الأفكار والمشاعر، ولذا فحين تُعالَج اللغة باعتبارها طريقة للحصول على معلومات، أو استعراض معلومات محصّلة فقط، فإنها تفقد دافعها وغرضها الاجتماعيين.
العناية السايكولوجية باللغة العربية
نجد في آثار بعض المشتغلين الأوائل في شؤون اللغة العربية إشارات مقتضبة يمكن عدّها من اختصاص سايكولوجيا اللغة، على نحو ما ذكرت جوانب منه في كتابي «تدوين الثقافة العربية». وأول مَن تُشير المصادر إلى وضعه «القواعد الهندسية» للخطّ العربي في بغداد هو «محمد بن علي» الشهير بكنية «ابن مقلة» المتوفى أواسط القرن العاشر الميلادي، دون توضيحات تخدم الدراسة النفسية. وقد جرّ عليه اشتغاله بالسياسة والمناصب عقوبة الحبس، وقطع يده التي كان يكتب بها رسائله التحريضية على السلطة الحاكمة.
وتؤكد المصادر المبكّرة أنّ غالبية الذين بدؤوا بكتابة اللغة العربية على الجلود والعُسب والعظم والأحجار وغيرها قبل الورق، وخاصة الذين عاشوا بعد عشرات سنين من انتهاء فترة الخلفاء الأوائل، قد كانوا من غير العرب الذين اعتادوا «أقلاماً» متعدّدة ومختلفة، حسب لغاتهم «الأم» الأصيلة أو الطرائق المستخدمة في كتابات الأعراق التي ينتمون إليها.
ونعتقد أنّ هذا الوضع كان أحد الأسباب الدافعة إلى وجود الحاجة لوضع القواعد المبكّرة للقراءة والكتابة العربيتين، كما تروي المصادر، أي تعلّم اللغة بوساطة أخرى غير «السماع الصوتي» بالمشافهة الذي يحتاج إلى مقابلة بين المرسِل والمتلقّي على نحو مباشر أو عن طريق «وسيط» واحد أو أكثر ـ هو بدوره مرسِل ـ على نحو قد يؤدي إلى تغيير أصوات الألفاظ والمعلومات أو الاختلاف في فهم المتلقّين وتدوينها بصور متفاوتة بينهم.
وقد حالت ظروف كثيرة دون نمو بعض الدراسات القليلة للغة العربية، انطلاقاً من بحوث سايكولوجيا اللغة، رغم أنّ بعض الدارسين العرب تعلّموا هذه الأساليب في جامعات الدول المتقدمة في العصر الحديث، وحصّلوا درجات عن رسائلهم للماجستير وأطاريح الدكتوراه، لكنهم لم يفتحوا الأبواب لطلابهم بما يجعل بحوث سايكولوجيا اللغة ناشطة في أقطار الوطن العربي المتعدّدة، ولاسيما في ظلّ سياسات تعليمية كليلة تحصر تعليم اللغة العربية بقديم كتب النحو والصرف والمعاجم.
فأضاع ذلك وأمور أخرى متنوّعة فرصاً كثيرة على التعمّق في غير قليل من مسائل اللغة، التي تتعرّض للتفكيك والتغييب في هذه الحقبة، على أساس علمي نفسي يساعد في حلّ المشكلات وتحسين الأداء والانتشار، كما يلقي أضواء كاشفة على تجاوزات وتخرّصات كثيرة وردت في كتب بعض الأوائل عن أصل اللغة العربية وطرائق توليد ألفاظها وصياغاتها.
لقد غدت هذه المطالب وأمثالها أموراً تشكل حاجة فعلية وعلمية اليوم على غير صعيد، إضافة لكونها واجباً قومياً وإنسانياً نأمل من أساتذة اللغة العربية وأقرانهم الآخرين أن يبادروا إلى النهوض بهما، وأن يضغط المهتمّون بالثقافة العربية على متخذي القرار الراكنين إلى الاستسهال وسَنن السابقين، بما يدفعهم إلى فتح المجال أمام رفد المختصين في هذا السعي العلمي الطويل.