هل الفلسفة وجه من وجوه الطب النفسي بحسب أبو قراط وهل يمكن التمييز بينها وبين التحليل النفسي؟ أليست في الأصل أي الفلسفة نوعاً من أنواع التصوير التقريبي وتلك النظرة الشاملة الأدبية في طابعها أكثر من كونها علمية «لعلم نفس الأعماق» الحقيقي؟..
تساؤلات مهمة غالباً ما كنت أطرحها على نفسي مراراً.
هذه الرؤية للأمور التي لاقت بعض الرواج في أوساط العلوم الإنسانية عام 1970 تستند في الواقع على خطأ جوهري جداً لا يجوز أن نغفل عنه ليس لأن الفلسفة هي البحث عن الحكمة تم تحديدها منذ نشأتها أو حتى علاج للحياة الروحية تدفع بنا للخلط بينها وبين عملية التحليل النفسي وبدرجة أقل مع النظريات الحديثة (للتطور الشخصي) ولكنها على العكس من ذلك تماماً فهي تختلف عن التحليل النفسي.
في الواقع يظهر الغموض والالتباس للوهلة الأولى من كون هدف الفلسفة يتطابق مع هدف التحليل النفسي الأمر الذي يتطلب الوصول قدر الإمكان إلى شكل من أشكال الصفاء النفسي ويكون ذلك بالعمل على إخراج الحصر والتخلص منه إلا أنه ليس بوسعنا بأي حال التحدث أو تناول الحصر الميتافيزيقي (ذي الأسباب الغامضة والمعقدة) والحصر النفسي ذي الطبيعيتين المختلفتين تماماً من وجهة نظر واحدة، الأمر الذي يتطلب وسائل مختلفة ومغايرة لعلاجهما والتصدي لهما ببضع كلمات بسيطة يمكننا تعليل ذلك على هذا النحو:
يرجع فرويد وهو أعظم المفكرين في القرن العشرين رغم الانتقادات المألوفة الموجهة إليه من قبل كثير من فلاسفة العصر، يرجع فرويد ظهور الحصر بشكل أساس إلى عملية (تحرير الشخصية من تعقيداتها) عبر اللجوء إلى تقسيم وتجزئة الشخصية أثناء التحليل النفسي حيث لابد وأن يطفو على السطح نزاع داخلي بين هذا أو هذه وبين (الأنا المثالية)، بين الرغبات المخجلة غير المعترف بها والمحظورات الأدبية والأخلاقية .
كما ويظهر الحصر عندما لا تستطيع (الأنا المثالية) بصفتها (المنظم) ضبط الخلاف أو تذليله وتحريره وحينئذ ينطلق الحصر أو الضيق النفسي ويطفو على السطح.
ومن حيث المبدأ فإن هدف التحليل النفسي إنما يتمثل في إعادة تمكين الأنا للتحكم بذلك النزاع عن طريق عملية التحويل بغية الوصول إلى حلول تعيد للمريض (حالة الحبور والانطلاقة) بحسب مقولة فرويد الشهيرة:
(تعالوا نتخيل وإن لبرهة وجيزة أن أحد المرضى قد حقق تلك الحالة من الحبور والانطلاقة بعد عملية تحويل وتحليل نفسي وصولاً إلى البلوغ لحالة نفسية مثالية لنجد من ثم أن هذا الأمر ليس بذي معنى على الإطلاق أقله بالنسبة لوضع تصير فيه النزاعات الجوهرية تحت المراقبة وعندها لا يمكن تحقيق صحة نفسية مثالية
ولكن لنفترض رغم ذلك ولبرهة وجيزة أيضاً أننا ندنو من هذه الحالة عندئذ ووفقاً للمبدأ لابد من أن يهزم الحصر النفسي وتبدأ المخاوف المرضية والأفكار الاستبدادية والقهرية الأكثر بطلاناً بالتلاشي والزوال مفسحة المجال للمريض من الدنو من حالة الصفاء.
ومع ذلك لابد وأن يظهر في هذه الحالة المثالية تحديداً الاختلاف البين بين منهج التحليل النفسي ونهج أولئك المهتمين بالفلسفة على الدوام.
وفي حال افتراضنا أن المريض (المتعافى تقريباً) لن يصطدم بعدذلك بنزاعات داخلية إلا أنه سيواجه حتماً مشكلات وجودية أساسية مرتبطة بمحدوديته ككائن بشري قابل للموت (فانٍ) .
وهنا يمكننا القول: إن الصحة العقلية الأكثر رفاهية وسمواً لن تحول دون دنو لحظة فنائنا أو فقدان شخص عزيز على قلوبنا أو حدوث معاناة أو ضجر أو الوقوع في مطب البؤس في علاقات الحب.
وبمختصر موجز أقول: إن الحصر المرتبط بمحدودية الكائن البشري يختلف تماماً عن الحصر الناجم عن النزاعات النفسية.
ويمكنني القول :إن التحليل النفسي يهتم بالحصر المرضي الناجم عن النزاعات الداخلية التي ينبغي ضبطها عندما تلامس السقف وأما الفلسفة فإنها تتجه نحو الاهتمام بالحصر الوجودي وهو شعور عام لكنه شعور طبيعي حتماً، مرتبط بالوضع البشري أكنا أصحاء أم غير ذلك حتى وإن انتهى بنا الأمر للحصر المرضي المرتبط بالإمكانية الدائمة لموت من نحبهم نبقى مع ذلك سليمين.
انطلاقاً من ذلك لا يمكن للفلسفة والتحليل النفسي أن يتخفيا أو يستترا على الإطلاق لكنهما رغم ذلك غير متعارضين وقد يكملا بعضهما البعض شريطة أن نضع من الجهتين حداً فاصلاً للقضايا الأزلية السرمدية العصية على التفسير والتعليل حتى هذه اللحظة.
عن لوفيغارو: بقلم لوك فيري