تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فـروغ فروخزاد.. أيقونة اللعنة المجنحة

فضاءات ثقافية
الأحد 19-2-2012
في إحدى ضواحي العاصمة الإيرانية طهران وخلال ليلة يوم 13 شباط من سنة 1967 اصطدمت سيارة لاندروفر بسيارة أخرى كانت قادمة في الاتجاه المعاكس

بحيث أدى إلى تحطم باب سيارة لاندروفر إلى شطرين بينما وجدت الشابة التي كانت خلف المقود خارج السيارة ملقاة على الرصيف البارد والدماء تنزف من رأسها.. وفي الطريق إلى المستشفى لفظت الضحية أنفاسها الأخيرة.‏

يبدو الخبر عادياً للوهلة الأولى, لكن مع أولى ساعات الفجر استيقظ الإيرانيون على نبأ وفاة مفاجئة لإحدى الأسماء الأدبية اللامعة في حادث سير تعرضت له الشاعرة الإيرانية المتمردة فروغ فروخزاد. الطريقة التي توفيت بها الشاعرة لا تقل مأساويتها عما عانته خلال حياتها التي عرفت سلسلة من الحوادث المؤسفة.‏

ولدت فروغ فروخزاد سنة 1934 بطهران، عانت طفولة قاسية على يد والدها الذي اختار زوجة ثانية, أما أمها فقد كانت شغوفة ونهمة للماديات أكثر من اهتمامها بأطفالها, وبالكاد في أولى سنوات مراهقتها زفت الشاعرة إلى رجل يكبرها سناً ما فتئت تنجب منه طفلاً ولم يعمر ذلك الزواج سوى 3 سنوات, اختارت الشاعرة فك روابطه بمحض إرادتها بعدما وجدت نفسها سجينة أعراف قديمة ضمن أسرة لا يعرف الحب طريقاً إليها وتم سلبها الطفل من طرف أهل زوجها حيث تكفلت به جدته من أبيه، وبذلك قطعت فروغ دابر روابط شكلية وزائفة وقررت التمرد والتصرف في نفسها متجاهلة كل العادات والتقاليد والأعراف، كانت ظاهرياً تتجاوز مشاكلها بنجاح, لكنها في حقيقة الأمر وفي أقصى نقطة من روحها كانت تطبع كل محنة فيها غزلاً من الحزن حول فؤادها وآثاراً لن تمحى، كان لابد أن تنفصل عن ابنها الوحيد وتلتفت كليا إلى الفن وخصوصاً الرسم، لكنها في نهاية المطاف وجدت نفسها منساقة إلى كتابة الشعر.‏

نشرت بواكير أشعارها في ديوان أسمته «الأسيرة» سنة 1955 ضمنته قصائد بلغة ذاتية صرفة وغير متوقعة في الشعر الإيراني المتداول حينذاك ربما كونها نابعة من عمق إنساني صادق للشاعرة.. لم تخف الرسائل الوعظية التي تضمنتها أولى بواكيرها الشعرية ذات المحمول الأخلاقي الشخصي لنبذ كل ما هو نفاق في العلاقات الإنسانية عامة وكل ما يمثل الحلول الوسطية في إبداء الآراء والمواقف، هذه الصرامة في الدعوة إلى العمل بهذه الأخلاق بواسطة رسالة الشعر من طرف كاتبة إيرانية كانت تنادي أبداً ومن دون الانضواء تحت أي مؤسسة رسمية بالحرية، بحريتها هي.‏

ولم يكن لأي كان أو أي شيء استطاع أن يقف في وجه ثورتها.. ففي قمة عطائها الشعري أثبتت فروغ فروخزاد عن طينتها كشاعرة مقتدرة تملّكت ناصية الشعر بإتقان نادر.‏

نشرت الشاعرة لا حقاً مجموعتين شعريتين هما «الجدار»سنة 1957 و«العصيان» سنة 1959 بوّءها مكانة بارزة في الشعر الإيراني المعاصر.‏

تبدو شخصية فروغ فروخزاد الأكثر عمقاً من خلال كتاباتها الشعرية, وتوقها الشديد إلى الحرية والانعتاق من سجن المجتمع المقدس لسلطة الرجل البطريركية القديمة وأصبحت نبضات قلبها المفعمة تتماهى مع سعيها إلى الحرية ولا غرو أن يتحول اسمها إلى عنوان أشهر من نار على علم مثلما أشعارها التي تتداولها الأيدي ويحفظها الشباب عن ظهر قلب بل ويتطلع إلى جديدها بشغف, وإذا كان هذا حال البعض ممن أشاد بشخصيتها الشعرية فالبعض الآخر كان يتربص بها الدوائر, ويحيك ضدها الدعايات الباطلة إلى حد وصفها بالفاسقة وبالبقعة السوداء التي لطخت ثوب الشعر الإيراني أما البعض الآخر فقال إنها لعنة.‏

وإمعانا في إيذائها لم تتوان بعض الجرائد التشهير بها والسخرية منها حتى إنها ذات يوم تلقت إهانات بالغة من ابنها ورغم ما لحقها من أذى واصلت مسيرتها وأثبتت للجميع شجاعتها وعدم تأثرها بالسيل الجارف من السباب والإهانات من هنا وهناك, بل حافظت على حساسيتها الشعرية الممزوجة بمرارة ونضارة كلمتها وصوتها الذهبي المغرد قصائد نادرة الجمال ليس سعيا منها وراء رحلة مجد.. ولا الألفاظ النابية التي رصدت لها حالت دون تحقيق ما كانت تصبو إليه ما دام تسلل إيمان قوي بداخلها أن مصيرها في النهاية هو أكثر من نجاح سريع الزوال وقد صرحت في هذا الخصوص قائلة: «إن الشعر الحقيقي مثل آلهة وثنية حريصة دائما على أن تضحي بنفسها».‏

في سنة 1964 نشرت الشاعرة ديوانها الرابع الموسوم «ولادة ثانية» جمع بين دفتيه جواهر لم ينكرها حتى أعداؤها الطبيعيون. في السنوات الأخيرة قبل وفاتها أصبحت فروغ أكثر ميلا ً للسينما وعملت إلى جانب السيناريست والمخرج الإيراني جولستان, بل إنها مثلت دوراً في فيلم وثائقي قصير عنوانه» البيت المظلم» ونال جوائز في مختلف المهرجانات الدولية وبرغم اهتمامها بالسينما ظلت فروغ مخلصة لكتابة الشعر.‏

في فيلمها الوثائقي تضعنا فروغ على الفور مع حقيقة وجود شيء اسمه «الشر» وحاولت تقريب المشاهد إلى زخمه المتعال في قلب بيت مضلل بالسواد, وهو المكان الذي تدور فيه قصة رجل مجذوم؛ وفي زخم عذابات الرجل البائس تفرقع لحظات من الفرح نابعة من إحساسه بالحب, أو هكذا كان يأمل في قرارة نفسه، وهي تقريباً نفس الغبطة المفاجئة التي اجتاحت قلب الشاعرة عندما حلمت عميقاً بكل الأشياء المثالية في الحياة؟ لكنها تموت في غمرة الحياة محتضنة أبياتاً من شعرها كانت أخذتها معها في الطريق إلى قبرها ونقشت لاحقاً على شاهدة القبر هذه الأبيات:‏

أنا أتكلم عن عمق الليل.. عن الظلام في أقصى حدود له.. عن الليل البهيم... لو أنك تأتي إلى بيتي، من أجلي، يا رقيق القلب.. لا تنس أن تجلب معك مصباحاً لي.. ونافذة كي أتطلع إلى الأناس عبر الشارع السعيد.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية