تقع حروب 48 و67 و73, ضمن النمط الأول.
أما النمط الثاني فيشتمل كل المواجهات التي خاضها هذا الجيش, ضمن عقيدة الاشتباك نفسها, ومع العدو نفسه, دون أن تختار سورية ميدان المجابهة ووقتها.
حرب حماية الوطن الراهنة, ضد المشروع الأمريكي القاضي بإعادة تشكيل “شرق أوسط جديد”, والتي تدور رحاها منذ 17 شهرا, هي مثال من النمط الثاني كحرب مقاومة تعريب كامب ديفيد 1977-1982.
ولكل من النمطين خصائصه.
اذ إن حروب النمط الأول كانت تجسيدا للصراع الوجودي، السجال بين غزوة المشروع الصهيوني, وبين المشروع القومي العربي.
هي حروب سجال لأننا تكبدنا فيها هزائم, وحققنا انتصارات.
وكان ذلك مشروطا بالعوامل الحاكمة للحروب الكلاسيكية, كميزان القوى, وما يليه من إسناد لوجستي وتعبوي وبيئة مؤاتية إقليميا ودوليا.
ثمة مثالان صارخان على السجال: حرب 1967 التي تكبدنا فيها الهزيمة. وحرب 1973 التي تجللت بالنصر.
في 1967 لم تكن الحماسة والإيمان بعدالة الحرب ضد الغزاة, كافيين لتعويض الخلل في ميزان القوى لمصلحة العدو, ليس وحسب بمقياس الترسانة العسكرية, بل بمقياس عدد المقاتلين الذين زجت بهم “اسرائيل” في الميدان. وهو 264 ألف جندي اسرائيلي, مقابل 75 ألف سوري و150 ألف مصري.
وهذا يعود إلى الخلل في العقيدة السياسية على جانب الخندق العربي في هذا الصراع القومي.
اذ إن الإمبريالية تدجج “اسرائيل” بما تتفوق به على العرب مجتمعين, بوصفها جزءا متقدما من النظام الإمبريالي, صاحب وظيفة في تمكين هذا النظام من الهيمنة على الوطن العربي, لكن العرب منقسمون.
وباستثناء سورية والجزائر, ومصر قبل 1973, فإن مسألة: من العدو؟ لم تكن محسومة لدى الأنظمة العربية المرتهنة للإمبريالية, والمستقيلة من العقيدة القومية وأكلافها.
أخرجت اتفاقية كامب ديفيد مصر من الخندق العربي بعقيدة سياسية عنوانها النكوص إلى فلسفة مملكة السعوديين في الانسحاب من المسؤولية القومية.
وهذه ليست وحسب مفارقة متكونة من “حياد” في صراع مصيري, بل هي بوابة لحروب اسرائيلية بالنيابة تُخاض خلف خطوط العرب. مع كل ما يحمله نقل المعركة إلى خلف خطوط العرب من مزايا لـ”اسرائيل”, ومن مخاطر مدمرة للعرب.
حسب الرياضيات, فإن شارة السلب في طرف معادلة, تصير شارة إيجاب لدى انتقالها إلى الطرف الآخر.
وهذه هي المأساة في الحروب التي أكرهت سورية على خوضها, وسطع فيها نجم مناقبية جيشها.
اذ إن التفرج البهيمي لممالك المرتهنين للإمبريالية على بسالة القوات المصرية والسورية في حرب 1973, كان مشفوعا بفساد قراءة طرفي الصراع, وما يليه من امتناع عن تحديد العدو, والتعامل معه كما يجب قوميا وأخلاقيا.
النكوص المصري بعد 1973, إلى فلسفة مملكة السعوديين في مقاربة الصراع العربي-الصهيوني, أورث الجيش العربي السوري, مهام إضافية امتحنها في 1982, حين وجد نفسه وحيدا في حرب مع العدو الصهيوني.
بيد أن ترجمة القيادة السياسية السورية لعقيدة الاشتباك القومية مع “اسرائيل”, عوضت بعض الثغرات الناشئة عن الاستقالات العربية الموسعة من الخندق العربي.
إسقاط اتفاق 17 أيار حرم “اسرائيل” من مكافأة كان متوجبا أن تحصل عليها من غزو 1982. ومع تبلور خط مقاومة جديدة في لبنان, تسارع العد التنازلي للتفوق الاسرائيلي على الجدار الاستنادي السوري لنهج المقاومة بواقعتي أيار ألفين وصيف 2006, الموصولتين بشتاء 2008-2009 في فلسطين.
ولم تقعد أمريكا و”اسرائيلها” مكتوفة الأيدي. فعملت واشنطن على إكراه دمشق على أن يخوض جيشها حربا من النمط الثاني, مختلفة عن حروب تحتمل النصر أو الهزيمة. بل هي هزيمة محققة لسورية, لكون رحاها تدور خلف خطوطها.
جيش سورية العربي يتصدى, منذ 17 شهرا, لواحدة من حروب استطاعت أمريكا و«اسرائيلها» نقل معاركها إلى ما وراء خطوطه الخلفية.
وقد تحقق لواشنطن هذا المكسب بقوة الخرق الذي تجسده فلسفة مملكة السعوديين في الانسحاب من المسؤولية القومية, معززا بالحشد الإسلاموي.
والحصاد الأمريكي المطموع فيه أن يكتسح هذا الخرق آخر مواقع الممانعة والمقاومة في الدنيا العربية, لمصلحة “شرق أوسط جديد” تتسيد فيه “اسرائيل”.
تتهدد هذا الطمع الإمبريالي مناقبية الجيش السوري القومية, التي تفولذت عبر تاريخ حافل بأمجاد التضحية تحت لواء العقيدة القومية, ابتداء من ميسلون 1920 حتى يومنا الحاضر, ومرورا بالثورة القسامية 1936-1939, وجيش الإنقاذ 1947, ومشاطرة مصر في جبه عدوان 1956, التي لمع فيها اسم الشهيد جول جمال, وصولا إلى ملحمة 1967 و1973 و1982, التي كان المتسعودون يتفرجون على شهدائنا فيها كما يتفرجون على مباريات كرة قدم!!!.
ولأن المستقيلين من العقيدة القومية لا مستقبل لهم, فإن مقاتلي جيش سورية الوطني يحتكرون الأمجاد وصناعة المستقبل, وهم يخوضون أشرس المعارك ضد عدو تسلل إلى خلف خطوطهم, تحت عباءة تحالف إمبريالي-إسلاموي متسعود, انتقل إلى خندق “اسرائيل”, ولم يعد “محايدا” كما في حروب 1967 و1973 و1982.
Siwan.ali@gmail.com