فإن الحقيقة التي نعيشها تؤكد لنا أن الإنترنيت أصبح واقعا ما, نعيشه في كل تفاصيل حياتنا وأيامنا, ونغوص فيه بأشكال شتى, أو أننا حقيقة نبحر فيه بعيدا وقريبا نتيجة الرغبة الجامحة لدى الإنسان في ممارسة نزعة متأصلة في كيانه, وهي التواصل مع الإنسان والأشياء, ربما بدعوى الإحساس بوجوده والتعبير عن هذا الوجود بشتى الوسائل المتاحة, ولا يستطيع أحد ما, أن ينكر أن الإنترنيت أصبح من أسهل الأدوات والوسائل وأوسعها انتشارا بين الناس, فهل يتحاور الإنسان خلال الإنترنيت مع الإنسان أم مع الآلة ؟..
ربما كان الموضوع شائكا بما لا يحتمل المزيد من الرؤى الجديدة, لكن المهم في هذا الحوار, أنه واقع, وأن هذا الواقع يرخي ظلالا رائعة في النفس البشرية التي تتوق إلى بناء وإقامة هذا الحوار بين إنسان هنا وآخر في طرف آخر من العالم, حوار مع إنسان مثله, يقاسمه أحلامه وهمومه وطموحاته وأفكاره, ويتبادل معه المعارف والعلوم والآداب والخبرات.
أسباب وجيهة ؟
ولعله من المفيد هنا, أن نغوص في جوهر الموضوع ليس بصفته ظاهرة بقدر ما أصبح حقيقة, يتجلى فيها واقع الإنترنيت من جهة وتكنولوجيا المعلومات وأدواتها من جهة أخرى, بينما تظهر الأسباب الوجيهة للرغبة في التواصل بين الناس من خلال هذا المحيط الجديد, وهي تدفع بالبشر للإبحار فيه بشكل تلقائي ومتزايد.
فالرغبة في التواصل من خلال الإنترنيت, أصبحت اليوم ظاهرة متفاقمة بين الناس في عالم يعيش فيه الإنسان حالة من الإغتراب والعزلة والانكفاء, إذا لم نقل الانطواء على النفس والذات, التي تترافق مع تشوهات في طبيعة العلاقات الإنسانية, وانقطاع الكثير من الصلات بين الأهل والأصدقاء الحقيقيين, وزملاء العمل والجيران, بل مع أفراد الأسرة الواحدة أحيانا, هذا من جانب.ومن جانب ٱخر, تزايد وسرعة انتشار المجموعات الافتراضية, التي تجمع بين أصحاب الاهتمامات المشتركة, وأصحاب التخصصات الواحدة, والآراء المتجانسة, واهل وجماعات المنافع والسهر والدردشة, من جانب آخر.
ميزات وسمات نوعية
ويستطيع العضو في هذه المجموعات الافتراضية, أن يتبادل الأحاديث والرسائل عبر الصوت, أو بالصوت والصورة, بشخصية حقيقية أو افتراضية, ويمكن له تبادل التواصل مع أفراد المجموعة كلها, أو أن يحجبه ويسر بحديثه لشخص واحد, كما يستطيع أن يتنكر في شخصيات متعددة, وما أكثر حالات التنكر والتقمص, فالرجال يتقمصون النساء والعكس يحدث, والصغار يتقمصون شخصيات الكبار, لا بل وحتى الشخصيات الشهيرة تتقمص شخصيات وأسماء عادية.
حوارات وتواصل أشبه بلعبة الشخص الواحد مع نفسه وهو يمارس جملة هوايات في اللحظة ذاتها, بل لنقل أن حالات التواصل هذه تتشكل أحيانا فتبلغ حد الكرنفالات الافتراضية والحفلات التنكرية التي أصبحت سمة من سمات وخصائص عصر تكنولوجيا المعلومات.
يترافق واقع الإنترنيت هذا, بتطوير أساليب المجموعات فيه, من حيث أشكال الحوار وأماكن اللقاءات وقاعاتها, ويمكن للعضو فيها أن يزور تلك القاعات والغرف دون أن يعلن عن نفسه, وأن يتواجد في أكثر من مكان في ذات الوقت.
وتتسارع أمواج هذا المحيط يوما بعد يوم, حتى أننا أصبحنا أمام حالة من حالات الرؤوس المجسمة الناطقة (ثلاثية الأبعاد), وهي تنوب عن أصحابها في لقاءاتهم الافتراضية وحواراتهم عن بعد، وهي خطوة أوسع ليكون حالها أقرب إلى الواقع, ويمثل هذا الحال شكلا من أشكال الثورة في عملية التواصل الإنساني بحق.
لقد تحررت عملية التواصل الإنساني اليوم من شتى القيود, قيود المكان والزمان, وقيود الجنس واللون, وكل قيود المجتمعات المألوفة, وأطلقت يد الفرد الواحد أيا كان, في إقامة شبكات من العلاقات الإنسانية حول العالم بأسره.
هوة سحيقة ؟
ولكن, من الطبيعي أن نتساءل الآن: هل أن شكل وأسلوب التواصل الافتراضي, يحقق بالفعل الجدوى الإنسانية من بناء علاقات منتجة ببن بني البشر؟
والحقيقة أن ثمة هوة سحيقة بين التواصل الإلكتروني البارد, والتواصل الحقيقي بين الإنسان وأخيه الإنسان..
فالأول يقيد من قدرة الفرد على نقل أحاسيسه وأفكاره, ويتركه عرضة للغش والخديعة والاستغلال.
وأيا كان الادعاء بقيمة التواصل عبر الإنترنيت, فإنه مهم من دون أدنى شك, لكنه لن يستطيع أن يكون بديلا عن الانتماء لجماعات حقيقية تعيش بحق الاهتمامات والآمال والظروف ذاتها.
وكيف للإنسان أن ينجح في التواصل عن بعد, ويفقد القدرة في التواصل عن قرب مع الأهل والأقارب والجوار؟!
ثمة وهم يشوب حالات التواصل عبر المحيط الجديد, فمع الأهمية البالغة لوجوده, لكن هذا لايبيح للمرء أن ينعزل عن محيطه البشري وتقوقعه وانغلاقه, كما لن يعفيه من التصدي للواقع ومواجهته بأسلوب منتج وإيجابي, يضمن بقاءه كعنصر حقيقي فاعل, لأن الجماعات الافتراضية لن تستطيع في النهاية أن تكون بديلا عن المجتمع والأوطان.