لكل قارئ نجمه المفضل وربما نجومه المفضلين وأنا القارئ البسيط لي نجوم في سماء الأدب لطالما رسمت شخصياتهم حسب ما تمليه علي مخيلتي من خلال متابعة ما يكتبون. النجومية عندي لا تعني متابعة أدق تفاصيل حياتهم الشخصية بقدر ما تعني حجم موقعهم في الإبداع.
والسؤال هنا: كيف تكون وأنت تلتقي أديباً كبيراً في عطائه بعد أن رسمت في مخيلتك صورة عنه؟
في تموز من عام 1987 وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أحد نجومي المفضلين في عالم الأدب، إنه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، المكان: فندق راسيا في موسكو، والمناسبة هي انعقاد مهرجان موسكو السينمائي الدولي السابع عشر. كنت مدعواً للمشاركة في فعاليات هذا المهرجان. وهو أيضاً كان مدعواً أيضاً، وكنا نحن الاثنين مدعوين من بين ألف وستمئة شخصية دعيت إلى المهرجان.
ولأنني كنت قبل هذا التاريخ واحداً من بين ملايين المعجبين بهذا الكاتب المبدع، فقد وجدت نفسي محظوظاً بالتعرف عليه شخصياً وليس من خلال ما كتب ونشر. رأيت ماركيز بلحمه ودمه، وكنت أراقب بفضول كل خطوة يخطوها، وحرصت طوال أيام المهرجان على أن يكون في مرمى بصري. وجدته معتدل القامة خطواته واسعة ومشيته سريعة والصرامة بادية على وجهه. ولكنني لم أفهم لماذا كان يلبس البنطلون البني نفسه طوال أيام المهرجان. «هل هي بساطة؟ ربما».
في اليوم الثالث من أيام المهرجان عرض فيلم «يوميات موت معلن» لمخرجه الايطالي فرانشيسكو روزي المأخوذ عن رواية ماركيز بالاسم نفسه. وما أن انتهى عرض الفيلم وأنيرت أضواء الصالة الواسعة والفخمة حتى خرج مسرعاً من دون أن يعلق شيئاً وقد ارتسمت على وجهه علامات الضيق. خرجت في إثره فرأيته يهم باحتساء الشاي. عرفته بنفسي. ورغم ضيقه صافحني بحرارة وابتسامة عريضة علت وجهه. كان من الطبيعي أن أبادر إلى سؤاله عن الفيلم.
لم يكن راضياً على سيناريو الفيلم لكنه أثنى على أداء بطلته «لم لا وهي الإيطالية الحسناء أورنيلا موتي». ولأن الحديث طال بيننا، انتحينا في ركن القاعة. وكان الحديث بيننا و»كان بالانجليزية طبعا» وليس بالاسبانية» قد امتد إلى نواح شخصية «فهو قد أقلع عن الشراب والتدخين وينام مبكراً ويصحو مبكراً. إنه يمقت القهوة.
بعدها تكرر لقاؤنا مرتين أخريين. في المرة الأخيرة كنا نسير معاً في الساحة الحمراء ومطر تموز ينهمر فوقنا، صارحته بالصورة التي رسمتها أنا عنه قبل أن أتعرف عليه. وتحدثت عن القراء الذين لهم أيضاً نجوم من الكتاب. قهقه طويلاً. توقف عن المشي وتطلع إليّ ومن ثم سحب نفساً عميقاً، وقال إنه هو أيضاً كقارئ معجب بكتّاب غيره. وأذكر أنه ذكر همنغواي وفوكنر من بين عديدين.
إذاً – قلت له – هذا هو حال القراء في كل مكان؟ وافقني الرأي وعدد نجوماً أدباء كباراً في العالم يفتتن القراء بهم لكنه لم يذكر اسمه بينهم أبداً.
بعدها قلت لنفسي: ألا يستحق ماركيز عن جدارة واستحقاق أن يكون نجماً ساطعاً في سماء الأدب؟
شيء واحد مؤكد: أن ترى ماركيز أو تسمع به، فالأمر سيان.