باصطحابِ أبي كي يسمحوا لي بالدخول، فهذا ما لم أعتدْهُ على الإطلاق.
وقعْتُ في الحيرة، ماذا سأفعل؟ لا أدري، كُلُّ ما أعرفُهُ وما أنا على ثقةٍ منه بأنِّي لن أخبرَ أبي بما حصل ولو على قطعِ رأسي، أبي يريدُ حجةً من السَّماء كي يخرجَني من المدرسة لأعملَ معه وأعينَهُ في صنعتِه الصَّعبة، وإذا عَلِمَ بما حصلَ اليوم فلن يتردد البتة في تنفيذ ما يصبو إليه، بل على العكسِ تماماً.. هذا ما يتمنَّاه ويشتهيه، لكن لا.. لن أسمحَ بذلك.
كُنْتُ أصولُ وأجولُ في غرفتي، الأفكار تزدادُ تعقيداً في رأسي، والخططُ تتناثرُ معلنةً فشلها لحلِّ هذهِ المُعضِلة، وأنا على حالي تائهاً.. ضائعاً.. خائرَ القوى.. إلى أن طرقَ مسامعي من خلالِ النافذة صوتٌ متهدِّجٌ يصيح: مازوت.. مازوت.. لم يَطُلْ شرودي عندما قُلْتُ في نفسي: «إجت والله جابها». فتحْتُ بابَ غرفتي برعونة، ركضْتُ باتجاهِ الفرج، أسابقُ درجات منزلنا، نزلْتُ الشَّارع، وإذا برجلٍ هرم، أسمر اللائحة، رثِّ الثياب، قامتُهُ قصيرة، تنسابُ قطراتُ العرق على وجهه الشَّاحب ذي المنعرجاتِ المتشبِّثة على وجنتيه وجبينه منذ زمنٍ بعيد على ما بدا لي، يتربَّعُ على كُرسيٍّ جلدي قديمٍ.. مهترئ، يُمسِكُ برسنِ حيوانٍ لم يكُن بالتأكيد أصيلاً.. ولا حماراً هزيلاً، المهم أنَّهُ يفي بالحاجة.. قٌلْتُ في نفسي: هذا ما أريدُه تماماً.. اقتربْتُ منهُ، رميْتُ عليه السَّلام، أجابني بابتسامةٍ ضحلة، تُنبئُ بتفاؤلِه بقدومِ زبونٍ قادمٍ لشراء المازوت، لكن لا.. لم يُصِبِ الهدف، فغايتي مختلفة هذهِ المرَّة، ومن دونِ مقدمات لن يفهمَها هذا الرَّجل قُلْتُ لهُ: أتقبل أن تكونَ أبي.. لن تطولَ الحكاية، عشر دقائقٍ فقط وستعودُ بائعَ مازوت.. ها.. ما قولك.. جحظتْ عيناه، اتسعت مغارتا أنفه، تسرَّبَ العرق إلى ذقنه الصَّدئة، إلى صدرِه كثيفِ الشَّعر، شعرْتُ بأنَّهُ أصبحَ جاهزاً للطهي، لذلك أكملْتُ له حديثي على عجل، شرحْتُ لهُ قصَّتي، وأردفْتُ له: ستذهب بصحبتي إلى المدرسة على أنَّكَ أبي، تسمعُ ما يقولُهُ لكَ المُدير، تنصتْ.. تعدُهُ بأنَّكَ ستُنفِّذ ما يطلُبُهُ منك، وتغادر، «ويا دار ما دخلك شر»، هذا كُلُّ ما ستفعلُه، أأعتمدُ عليك؟ أم.. لم يسمحْ لي بمتابعةِ حديثي، وضربَ يدَهُ على صدرِه معبِّراً عن جهوزيته.. اتفقنا على الأجرة، وكيفَ ستُنفذ الخطَّة وافترقنا.
نهضْتُ صبيحةَ اليومِ التالي من فراشي بهمَّةٍ عالية لم آلفها من قبل، غسلْتُ وجهي، ارتديْت ملابسي، وانطلقْتُ باتجاهِ المدرسة، قابلْتُ بائعَ المازوت عندَ أوَّلِ مفرقٍ يترأسهُ عامودُ كهرباءٍ متدلِّيةٌ أسلاكُه لتصبح على مقربةٍ من أول نقطة ملامسةٍ الأرض، تبادلْنا مفرداتِ الصَّباح، ومشينا.. وصلْنا مقصَدَنا، صعدْنا الدَّرجَ بثقة، طرقْتُ بابَ غرفةِ المُدير، أتت الإجابة: تفضَّل.. فتحْتُ الباب، وأشرْتُ لأبي الوهمي أن يدخُلَ أمامي، سبقني بائع المازوت وَهَمَّ بمُصافحةِ المدير، بينما سِرُتُ خلفَهُ مطأطئ الرَّأس، مُحمرَّ الوجه، مُخفياً ضحكةً صرَرْتُها بينَ أسناني وأحكمْتُ الرِّباطَ عليها، جاعلاً المُديرَ يظنُّ أنَّ الحياءَ يلبسُني من رأسي حتى أخمصِ قدمي، أومأ المديرُ لأبي المجهول الهويَّة بالنِّسبةِ إلي أن يجلس، إلا أنَّهُ أبى، وطالبَ من المدير أن يشرحَ لهُ سببَ دعوتِهِ للمدرسة، كان بائعُ المازوت حانقاً، شديدَ الانفعال، يكسوه الغضب، وأيقنْتُ حينَها بأنَّهُ ممثِّلٌ بارعٌ، وبأنِّي أحسنْتُ الاختيار.. نهضَ المُديرُ من خلفِ مكتبه وقال: إنَّ ابنَكَ صبيٌّ مُشاغب وعفريت و.. لم يُكمل جُملَتَهُ حتى انطلقَتْ زوبعةٌ من فمِ أبي أظهرَتْ طبقةً صفراويَّةً تتربُّعُ على أسنانٍ مُتعرِّجة الجلوس على لثَّةٍ سوداء.. أو بنِّية، لم أستطع تمييزَ اللون فأشحْتُ نظري مُرغماً، وإذ بهِ يغضب ويصرخ بوجهي: وهل أرسلتُكَ إلى هنا كي تشاغبَ يا قرد، لعنةُ اللهِ عليك يا.. هدَّأ المديرُ من روعِهِ وطلبَ منهُ الجلوسَ، كانَ على الرَّغمِ من قصرِ قامته، وضعفِ بنيته، شديدَ الغضب، يختزنُ في داخلِه براكينَ تنتظرُ من يثوِّرُها.
انتظرَ المديرُ ثوانٍ قليلة إلى أن هدأ أبي وأكمل: لو أنَّ الأمرَ اقتصرَ على سلوكِه لكان للأمر مخرج، لكن علاماتُه المُتدنِّية زادتْ في الطِّينِ بلَّه، وهذا ما جعلَ المدرِّسينَ ييأسونَ منْهُ ويطالهم الغضب بسبب ما تقترفُهُ يداه. عادَ أبي ليشتاطَ غضباً من جديد، نهضَ من على كرسيه وصرخ بأنفاسِه المازوتيَّة في وجهي: حتى في هذه يا ابن الكلب، أعملُ وأتعبُ وأكدُّ طوالَ اليوم كي أطعمَكَ أنت وأخواتك وأمِّك، آه.. الكل في كفَّة.. ووالدتُكَ في كفَّة، ستجلبُ ليَ الجلطة قريباً.. التفتَ إلى المدير يشكي له ما يعانيه، بينما جحظتْ عيناي أنا هذهِ المرَّة وبدأتُ أسمعُ ما يقول والدَّهشةُ تعتريني وهوَ يقول: زوجتي كسولة يا مدير، لا تستيقظ إلا في وقتِ الظَّهيرة، عمل.. لا تعمل.. طعامُها.. مقرفُ النكهة.. شكلُها.. والعياذُ بالله، رائحةُ فمِهَا.. يا حبيبي.. كُنْتُ سأصرخُ في وجهه، لكن لماذا سأصرخ، هوَ يتكلَّمُ عن زوجته، سأصبرُ على هذا المُغفَّل لحين خروجنا وعندها سأتدبَّرُ الأمر.. عادَ يوجهُ الحديثَ إلي: ألا أجني لكم المال كي تنجحوا، هل قصَّرْتُ عليكَ بشيءٍ يوماً يا حقير، هل.. هل..هل؟؟ كنتُ أستمعُ وقلبي يمتلئُ حقداً على هذا الرَّجلِ الأبله، لكن وهل في اليد حيلة، هوَ أبي وعليَّ أن أتحمَّلَه.. عُدْتُ لأطأطئَ رأسي من جديد، فلم أعدْ أطيقُ النظرَ إليه، بينما أكملَ المدير: ولم يقتصرْ الأمر على ذلك، بل قامَ ولدُكَ المصون البارحة بضرْبِ ابنِ مدرِّسةِ التاريخ، ثُمَّ اقترب وهمسَ في أذنِ أبي: «آنسةُ التاريخ أجمل مدرِّسة هنا في المدرسة، منذ ولوجها إلى هُنا وأنا أعملُ على إرضائها، من أجل أن يأتي ابنُكَ في النهاية ويضربَ ابنَها؟ أيعقلُ ذلك يا رجل؟!» ثُمَّ عادَ ورفعَ نبرةَ صوتِه: ثُمَّ أنَّ الطالب يصغرُ ابنَكَ «الشَّنتير» بسنتين، أتقبل ذلك يا أستاذ.. نظرْتُ بوجهِ بائعِ المازوت باستهزاء عندما قالَ لهُ المدير: يا أستاذ.. لكن نظرةَ استهزائي تلك لم تطُلْ عندما نزلتْ صفعةٌ على وجهي جعلتني أفقدُ صوابي، أتبعها أبي بقولِه: أوَتضرب الطُّلابَ يا حقير، يا ابن الحقير.. وعندما سمعْتُ كلمة «ابن الحقير» طارَ الدَّمُ إلى رأسي، وصرخْتُ في وجهِهِ على الفور: لقد تجاوزْتَ حُدودَكَ أيُّها البائعُ النَّتن.. المدير: اصمتْ يا قليلَ الأدب، أوتنعتُ والدَكَ بعملهِ، بالفعل إنَّك دنيء.
بائع المازوت: تنعتني بالنَّتن أمامَ الغريب أَّيُّها العاق، أنسيتَ بأنِّي والدك.. وصفعني بشدَّة على وجنتي الأخرى.. عندها نفد صبري وبدأتُ أصيح: وتضربُني أيُّها الوغد، أيُّها الجبان.. المدير: أفقدْتَ عقلَكَ أيُّها الوقح، وتتكلَّم مع والدِك بهذهِ الطَّريقة يا قليل التربية.. وأمسكَ بعصاه وبدأ بلسعي على كُلِّ طرف، بينما أخذ أبي يضربُني ويشتمني. تعاونا عليَّ، وبدأتُ أصرخ: ليسَ أبي يا مدير! إنَّهُ بائعُ مازوت أبله.. أحمق.. ليسَ أبي يا ناس.. بينما كانتِ الضَّرباتُ تنهالُ عليَّ وسطَ كلمات.. قليلُ التربية التي أتتني من المدير، وكلمات: أتنكرُ أبيك يا حقير.. أيَّها السَّافل، وتنعتُني بعملي.. التي كانتْ تأتيني من بائعِ المازوتِ هذا.
انقلبَ السِّحرُ على السَّاحر، لم أتوقَّع هكذا سيناريو قط، وما لم أتوقعْهُ مطلقاً ما حصلَ بعدَ ذلك، إذ أنَّ المدير لم يكتفِ بفصلي من المدرسة، بل استصدرَ أمراً بفصلي من كافَّةِ مدارسِ القطر.. أصِبْتُ بصدمةٍ كبيرةٍ لِمَا حصل، قبلَ أن أتأقلمَ مع وضعيَ الجديد، إذ أنَّ أهالي الحي منذ ذلك الحين أصبحوا يستيقظونَ على صوتِ صبيٍّ يصيح: مازوت.. مازوت.. وقد ظهرْتُ فوقَ عربةِ المازوت وكأنَّي وارثُ المهنةِ عن جدودِ جدودِي، أجولُ بعربتي طيلة النَّهار، والغلَّة في النِّهاية ل «أبي المزعوم» بائعِ المازوت الهرم ذي الأسنانِ الصَّفراء. ولم تمضِ إلا فترةٌ وجيزة حتى استطاعَ أن يجمعَ حولَهُ الكثيرَ من التلاميذ الذينَ وزَّعَهُم في الأحياءِ المُختلفة، و»المعلِّم» يجلسُ في منزله، يشربُ النَّرجيلة، وينتظرُ غلَّتَة في كُلِّ يوم.