تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الوجود لم يعد ملفتاً

ملحق ثقافي
2012/1/31
حاتم حميد محسن /لندن:في إحدى رسائل نيتشه التي كتبها عام 1886 يذكر: إن المثالية الإنسانية كلها على وشك التحول نحو العدمية..

نحو الإيمان بعدم الجدوى والخواء المطلق.. نحو تحطيم المثل، الفراغ الفكري والروحي الجديد، الفنون الجديدة لإدامة الوجود، وجودنا نحن البرمائيين.‏

هذه العملية يجب استمرارها والمثابرة عليها: ليست هناك عودة إلى الوراء، ولا اندفاع متهور إلى الأمام. في الوقت الحاضر نحن نقوم برواية تقليدية ساخرة لكل القيم السابقة ولأحلام نيتشه في الخروج من الكمال.‏

هو يقصد بالمثالية الطريقة التي أدركت بها البشرية وجودها على الأرض وعرضت فيها القيم والمثل: هي لم تعرف ذاتها ولم تعرف ماذا كانت تعمل. هناك نموذجان من التفكير يعكسان حالياً ما فيهما من نقص: الأول هو المثالية لأننا مع ما في حوزتنا من أصناف لم يعد في إمكاننا إيجاد معنى لكل ما يحدث؛ الثاني، الميكانيكية: النظرية الميكانيكية لن تحتاج ولن تخلق انطباعاً باللامعنى.‏

العدمية تدل على الخبرة بخفض القيم العليا. فلا توجد حالياً غاية، ولن نجد جواباً للسؤال إلى أين؟ هذا يشير إلى ما يطلق عليه نيتشه بـ «العدمية الراديكالية»: حيث يصبح من المتعذر الدفاع عن الوجود بالنسبة إلى القيم العليا التي يعترف بها الفرد. كذلك، هناك إدراك أننا نفتقر للحق بافتراض الماوراء كمصدر للحقيقة والقيمة، وبذاتية الأشياء المجسدة دينياً وأخلاقياً.‏

العدمية يجب النظر إليها «كمرحلة انتقالية مرضية»، وهي تأثير سيكولوجي ضروري طالما يصبح من الصعب الدفاع عن الإيمان الروحي وعن قسرية النظام الأخلاقي. المرضية تأتي من التعميمية الهائلة ومن الاستدلال بعدم وجود معنى إطلاقاً.‏

نحن فقدنا المحفز الرئيسي «وجودنا لم يعد ملفتاً»، أصبح مرهقاً: نحن لا نستطيع بلوغ المرتبة التي وضعنا فيها القيم ولا نعرف كيف نقيّم المرتبة المتبقية، المرتبة التي نعيش فيها ومقيدين بها «الأرض». نحن نشعر الآن بعار جديد تجاه أنفسنا: كيف لنا أن نخدع أنفسنا كل هذه الفترة الطويلة؟ «العار القديم كان موجّهاً لطبيعتنا الحيوانية».‏

«الأخلاق» نتعامل معها الآن كمشكلة، فما هي؟ هي طريقة لإعادة ظهرنا للوجود عبر خيال وفنتازيا النقاء، السلام، الخير، الجمال وغيرها. نحن الآن نمارس إحساساً عارماً باليأس.‏

عندما ندرك أن حاجاتنا السيكولوجية هي التي نسجت العالم، سنصل إلى «الشكل الأخير» من العدمية: وهو يأخذ شكل عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي ويحول بيننا وبين الإيمان بـ «العالم الحقيقي». هل نستطيع تحمّل العالم الجمعي؟ يكتب نيتشه باختصار في إحدى رسائله: «هو في تضاد مع الرغبة بالوئام وحب السلام، وهذا يتضمن كل محاولات التوحد الوجودي».‏

العدمية بمعناها الإيجابي يمكن أن تكون المثال لأعلى درجات القوة في الروح، الحياة الأكثر غنىً التي هي مدمرة جزئياً، وهزلية في جزئها الآخر «هذه العدمية هي التي حفزت أعمال مفكري ما بعد الحداثة مثل ريتشارد رورتي Richard Rorty و جياني فاتيمو Gianni Vattimo «.‏

وباعتبارها إنكاراً للعالم الحقيقي «عالم الوجود الحقيقي» فإن العدمية تُعتبر طريقة دينية في التفكير. إن وصول العدمية إلى وعينا هو شيء غامض لدى نيتشه: فمن جهة، أنها قد تكون علامة للقوة المتزايدة للروح، ومن جهة أخرى وبنفس المقدار هي ربما إشارة للقوة المتناقصة. الأعراض ذاتها قد تشير إلى الضعف وإلى القوة.‏

إلى جانب ضجرنا الحديث، فهناك القوة غير المختبرة والفعالة للروح، وعليه فإن نفس الأسباب التي تنتج الضآلة المتزايدة للإنسان هي ذاتها تدفع أقوى وأندر الأشخاص صعوداً نحو العظمة. يتساءل نيتشه ما إذا كان غير صحيح القول إن كل حركة مثمرة للإنسانية لا تخلق بنفس الوقت حركة عدمية: هي قد تكون إشارة للنمو الحاسم والأكثر جوهرية في الانتقال نحو ظروف جديدة للوجود.‏

يرى نيتشه ضرورة أن تُواجه العدمية وتُستكمل طالما أي محاولة للهروب منها دون إعادة النظر بقيمنا، سوف تُنتج العكس وتجعل المشكلة أكثر حدةً. لدى نيتشه هناك العديد من الأشكال غير التامة للعدمية. أحد تلك الأشكال هو الاشتراكية. مشكلة الاشتراكية لدى نيتشه هي أنها علمانية تماماً، لا تمتلك تصوراً عن الأبدية «التي يجب أن تُفهم الآن وفقاً لحياتنا الواقعية وليست وفق فنتازيا الدين أو الميتافيزيقا». الاشتراكية هي تعليم موجّه للأفراد الذين هم في حالة انتقال صرف يكرسون طاقات وجودهم ليعيشوا مجرد حياة زائلة وحياة اشتراكية.‏

الاشتراكية تحترم فقط المشترك وتريد هذا الحل الدنيوي لمشكلة الوجود وهو حل صُمم لتهدئة وإرضاء وجعل الأشياء أسهل ما يمكن. هناك أيضاً حقيقة أن المجتمع الاشتراكي، لأنه يسعى فقط للحفاظ على الحياة، سيكون مجتمعاً ضد الحياة ذاتها، لديه رغبة مخفية لرفض الحياة. الاشتراكية لها جذورها في الحياة، ويجب أن تكون كذلك، لكنها مع ذلك تقطع تلك الجذور.‏

يتوقع نيتشه حدوث مشكلة فيها تأتي مختلف القوى مجتمعةً فتتصادم وسوف تُخصص مهمات مشتركة للبشرية بطرق مضادة من التفكير، الأمر الذي يقود لبدء نظام «الطبقة بين القوى».‏

يسأل نيتشه: من سيثبت نفسه الأقوى في هذا الصراع؟ ويؤكد أنها ليست مسألة أعداد أو قوة غاشمة. الأقوى سيكون هو الأكثر اعتدالاً والذي لا يحتاج إلى أشياء مفرطة في الإيمان، ولكنه يستطيع قبول الكثير من الصدف والهراء وربما بشيء من الحب، وهو يمكنه احتضان الحيوان الإنساني وبأهمية معتدلة.‏

هؤلاء هم الأثرياء صحياً، متساوون في محن الحياة، ولذلك هم أقل خوفاً منها، وهم متأكدون من قوتهم.‏

نيتشه هو فيلسوف الإنسان العظيم. هو حقاً فلسفة جديدة في التواضع. هو ثوري.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية