العولمة التي لم نعد نسمع في عوالمها قهقهات الشيطان الأمريكي – الصهيوني، تختلط بآهات الأرامل والثكالى والأطفال الصارخين من هول تلك الحرب. يومها لا أنسى وأنا أتجول في أنقرة واستنبول تلك المظاهرات الرافضة لوحشية هذه العولمة، ولدمار العراق بآلة الحرب الهمجية، بعد أن بسط القطب الواحد يديه فوق العالم.. ويومها إذ كانت عيناي تصافح ولأول مرة أرض وسماء تركيا، كما تصافح وجوه الناس الغاضبين لما يحدث عند الجار القريب «العراق»، كنت ألمس حجم الألم لما يحدث، وحجم الرفض الشعبي لما تريده أمريكا للعالم باسم الديموقراطية المزيفة، وحجم الوعي للمخطط الصهيو- أمريكي، الذي سيفتك بشعوب المنطقة لتبقى إسرائيل فقط هي الدولة الوحيدة القوية، والذراع القوي للسياسات الاستعمارية العالمية في المنطقة وغيرها.
حين كنا نتحدث مع الشعب التركي،
من مثقفين وأكاديميين وأدباء وسياسيين ومنظمات، كنا نشعر بالراحة التي يمنحنا إياها موقف هؤلاء والجيران الذين نرتبط معهم بتاريخ طويل، نريد لتباريحه أن تنسى، لنبدأ بتاريخ أكثر إنسانية وإشراقاً وتعاوناً. لكن للسياسة دائماً مفاجآتها وأوجاعها، ومطباتها ومساربها التي كثيراً ما تنأى عن مصلحة وطريق الشعوب، ولعل هذا ما جعل اتحاد كتاب تركيا وبعض الأحزاب السياسية المعارضة يتوجهون بدعوة لسوريا كي يشارك أدباء وصحفيون ومفكرون عرب في مؤتمر يعزز تضامن الشعوب مع بعضها، لا سيما الشعب السوري الذي أخطأ ساسة تركيا في طريقة التوجه إليه، وفي أسلوب التعامل السياسي مع قادته السياسيين، أصدقاء الأمس القريب. وإذ تخطئ القيادة السياسية تريد هذه المنظمات والأحزاب تصويب البوصلة اتجاه سوريا.
يتوجه الوفد من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، ليقفوا جنباً إلى جنب على أرض أنقرة العاصمة السياسية لتركيا، إلى جانب أخوتهم وجيرانهم من أدباء ومفكرين وصحفيين وسياسيين، يقيناً منهم أن الأرض والشعب يبقيان بينما تتغير الأنظمة.
كانت المظاهرات يومية في تركيا احتجاجاً على سياسة القادة السياسيين، وتضامناً مع سوريا وأمن سوريا، ورفضاً للتدخل في شؤون الدول من خلال تنفيذ مشيئة الاستعمار الأمريكي – الغربي. هذه المشيئة التي تداعت نتائجها على الشعب التركي، فشهدنا في قاعة المؤتمر ارتفاع أصوات الأخوة الأتراك بالرفض لهذا التدخل، والدعوة إلى التضامن مع سوريا، التي يرون أنها العمق الاستراتيجي لتركيا والنافذة المفتوحة لهم على العالم العربي، والشريك الحقيقي القريب الذي تربطهم به أواصر الجيرة والدم، والكثير من المصالح المتبادلة. وقد أكد المدعوون العرب: الدكتور محمود السيد، والباحث أنيس النقاش، والاستراتيجي العسكري أمين حطيط، والأكاديمي الدكتور حسن جوني، والباحث السياسي هاني مندس، والصحفي الفلسطيني تحسين حلبي، والدكتورة كندة الشماد، والأدباء: الدكتورة ناديا خوست، ومالك صقور، وبديع صقور، وأنيسة عبود، ومريم خيربك، وعصام خليل.. أكد هؤلاء عبر الكلمات والحوار على خطورة ما يخطط للمنطقة من تفتيت وسيطرة على المقدرات، وخلق لحروب طائفية تبدأ ولا تنتهي، واستباحة الشرق الأوسط وفتحه على صراعات يكون الرابح الوحيد منها الصهيونية العالمية وإسرائيل تحديداً. كما تم التركيز على دور المثقفين من كلا الجانبين، وعلى آثار هذا التوتر السياسي على الشعبين، لا سيما الشعب التركي، والعلاقات بين الأمس واليوم وخطورة تدميرها. وقد تم تناول الموضوع من قبل الاستراتيجيين من خلال المشهد الإقليمي، والمشهد العالمي الذي يضع المشكلة في مكانها الصحيح، ما يؤدي إلى تفكيك هذه الأحداث، والوصول إلى الدلالات والعبر.
لذلك وأنا أشاهد وأسمع كل يوم على شاشات التلفاز ما شاهدته في أنقرة، تعود بي الذاكرة إلى ما شاهدته بعد غزو العراق في استنبول وأنقرة، فأتفاءل بوعي وحيوية هذا الشعب التركي، وفهمه لما يحصل، ومعنى وقوفه ضد سياسة حكومته الخاطئة، ورفضه لأن تكون هذه الحكومة ناطقة باسم الناتو الذي وقف برضاهم ومساعدتهم ليبيا، وضحى بآلاف الليبيين تحت اسم المدنيين، لذلك يرفضون القيام بنفس الدور تجاه سوريا، والتصرف نيابة عن أمريكا والغرب، لأن الدوائر ستدور ليدفع الشعب التركي الثمن غالياً من أبنائه وقوته وأمنه.
أجل هذا ما أكده المتحدثون الأتراك، لا بل شرح بعضهم لنا لعبة المخيمات للسوريين، حيث أخبرهم السوريون النازحون بالفخ الذي نصب لهم، ومعاناتهم الكبيرة، لذلك حين كتبوا وتحدثوا في الإعلام التركي حول هذا الأمر، مُنعوا من الدخول إلى المخيمات أو التحدث إلى اللاجئين، لا بل مُنع السوريون من الخروج من المخيمات وقبعوا في سجن مفروض عليهم بالتآمر مع المسلحين.
ترى هل هذه هي الديموقراطية التي يطالبون بها للشعب السوري؟ وهل تحرص القيادة السياسية فعلاً على هذا الشعب، أم ينفذون مخططاً أمريكياً غربياً صهيونياً، معللين الشعب التركي بجزرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ علماً بأن هذا الشعب يعي حذافير هذه السياسة ونتائجها.
تماماً كما بدأ العالم الآن بوعي حقيقة هذه الحرب على سوريا، وحقيقة ما تقوم به آلة الإعلام العالمي لتضليل الشعوب وتعميتها عن رؤية الحقيقة لما وراء هذا الزيف كي يسهل اصطياد البسطاء وضمهم إلى معسكرهم كما نشاهد في سوريا ومصر وتونس وليبيا وغيرها وغيرها.