يسمونهم بمبرمجي اقتصاد السوق المتوحش. إلا أن الواقع ليس قصيدة حب أو رواية رومانسية؛ إنه فقط ربح وخسارة، والفكرة المبدئية لنظام الربح والخسارة – كما يصفها باول سامويلسون في كتابه الاقتصاد: مدخل تحليلي - تكون على الشكل التالي: كل شيء له سعر؛ كل سلعة وكل خدمة لها سعر، حتى مختلف أنواع الجهد الإنساني لها أسعار، عادة تسمى «نسب الأجور».
ثورستين فيبلين، ومنذ عام 1899، أطلق نظرية «دعه يعمل، دعه يمر»، وهي جملة فرنسية جرى تبنيها كعبارة مختصرة تعني: استراتيجية السماح للأسواق بالعمل بحرية تامة، ولا يقيدها أي شكل من أشكال الإدارة أو اللوائح أو الأشكال الأخرى للتدخل الحكومي. وفي المقابل نبه فيبلين إلى أن سوق الفن هي السوق التي يرتفع فيها الطلب مع ارتفاع السعر بدلاً من أن ينخفض، وهذا يناقض مبدأ السوق الأمثل للعرض والطلب. وأطلق فيبلين على هذه العملية «الاستهلاك الرائع»، شارحاً أن السعر المرتفع للوحات الفنية مثلاً هو الذي خلق الطلب عليها وأن «الأثرياء استعملوا الأشياء باهظة الثمن كي يميزوا مكانتهم الاقتصادية».
من يستطيع دفع 126 مليون دولار ثمناً للوحة «عباد الشمس» لفان كوخ؟
بالتأكيد ليس الفنانون هم الذين يشترون، إنهم أصحاب الثراء السافر، الذين أدخلوا الفن ضمن لعبة العرض والطلب والاستغلال المفرط للجمال الفني.
إذاً، هناك قوانين جديدة في تاريخ الفن، يطلق عليها «سوق الإنتاج الثقافي». ولأن ما هو موجود في السوق لا يلبي الطلب من عدة نواح، ولا يجب إعادة عرضه دائماً، كان على تجار هذه السوق أن يخلقوا نجوماً ويلمعوها كي يتاجروا بأعمالها. وتوجه التاجر المحنك إلى إدخال الإنتاج الفني والأدبي في السوق المعاصرة.
في العقد الأخير، تبلورت آليات التعامل مع المنتج الأدبي نشراً وتسويقاً، وتزعمت بريطانيا والولايات المتحدة قيادة عملية تحول الأديب إلى رأسمال في العملية الاقتصادية، عبر قياس انتشاره في التداول العام، وتصنيع أدباء جدد حسب الطلب، يتحولون إلى استثمارات مربحة للغاية. ومع النجاح الذي لاقته دور النشر في البلدين المذكورين، تهافتت الدول الأخرى للعمل بسوية مماثلة، وبدأت بتصنيع نجوم في الإعلام المرئي وعلى الشبكة العنكبوتية المتبدلة بين ساعة وأخرى.
حضر النجم، وأصبحت نجوميته تقاس بمدى ترويجه لنفسه، ومدى ترويج المؤسسات له. وضمن هذا التوجه، انفك الارتباط ما بين نجومية الأديب وبين جمالية العمل الأدبي، حتى إن كثيراً من الأعمال التي أنتجت تحت بؤرة الضوء، لم تكن بمستوى يؤهلها للصمود لمدة قصيرة قبل حين من الزمن.
أمام سيطرة الكم على الكيف الفني، تساءل تيري إيغلتون عن مفهوم الالتزام في الأدب، وقال إن ثورية الأديب ومعارضته الجدية والمستميتة للثقافة السياسية والاقتصادية السائدة، قد تلاشت مع دخولنا القرن الواحد والعشرين، وأمسى الفعل الأدبي معفى من الثورية، وإلى حد كبير من الجمالية أيضاً.
استغنى الأدب، تحت وطأة الاقتصاد، عن فاعليته، ليس على المستوى الغربي فقط، بل وعلى مستوى العالم العربي، الذي لم تكن خطواته الإبداعية بالقدر الأوروبي؛ أي أنه ما زال جديداً في إنتاجه الروائي والقصصي. لذلك فإن التعويل الشعبي على الأدباء والفنانين عموماً، سيصطدم بفقر هذه الشريحة وتأخرها عن ركب الأفكار الثورية أو إنتاج أي فعل تغييري، حتى ولو على المستوى الجمالي.
وقبل أن تستطيع الرواية العربية أن تفرض حضورها في المحافل الأدبية العالمية، جاءت جائزة بوكر العربية، لتزيد من فكرة صناعة الأدب لصالح ديكتاتورية السوق، وروجت الجائزة لأسماء كثيرة، عبر قوائم طويلة وقصيرة، خلت تقريباً من نجوم الأدب السابقين، ليحل محلهم نجوم يعملون في صناعة الترفيه أكثر مما ينتجون أدباً. واستولت هذه الأسماء الجديدة – مع يقظتها المستمرة وتواجدها الدائم في الفضاء الافتراضي – على مساحة جيدة من الإعلام، لكنها فرضت أيضاً مساحة من التسليع والضحالة الفكرية والابتذال. وهكذا، فقد بدأ تحطيم الفن العربي لصالح السلعة قبل أن يبلغ سن الرشد جمالياً.
راجت الفضائحية والبورنوغرافية في معظم الروايات البوكرية، وتمترس أصحابها بآرائهم المتطرفة تجاه مفهوم الحرية والفردية، فزادوا بذلك من عزلتهم عن المجتمع، الذي يقولون إنهم سيخرجونه من ظلامه وجهله. ورغم أنهم لا يتمتعون أصلاً بالحد الأدنى من التأثير في مجتمعاتهم، إلا أنهم تخلوا عن جزء كبير من هذا الحد الأدنى، في مقابل دخولهم في لعبة مؤسسات الربح الثقافية، وظلوا يتحدثون عن روح الفن وضرورته وغاياته النبيلة، ويبررون فنهم بأنه تعبير جديد وحداثة يفترضها الواقع المتسارع. وكل هذا - في رأيهم - يصب في مصلحة الجماهير.
إن قدر الحرية الذي يتيحه الفضاء الافتراضي عبر الشبكة العنكبوتية، ينقل الفنان والأديب إلى مستوى آخر من التعامل، ويحرضه على التقليل من شأن النص الآخر «وربما الأفضل»، لأن الشهرة هنا ملك للجميع ومشرعة لأي أحد، والمحنك والشاطر هو الذي يثابر على الجلوس خلف شاشة الكومبيوتر، والاشتغال على الترويج لنفسه أكثر من غيره.
تلعب دور النشر «وهي جزء مهم من لعبة السوق» دوراً مهماً في الترويج للبضاعة الأدبية والفنية، ولا يمكن كبح جماح دور النشر الكبيرة إلا بعودة الأدباء والفنانين إلى أفكار التغيير الثورية التي تميز الفن؛ وسيكون عندها الإنتاج الثقافي على قدر من المسؤولية الاجتماعية، وليس تابعاً لأصحاب رؤوس الأموال.
في البلاد العربية المأزومة بكثير من التابوهات، تسعى مؤسسات النشر إلى خلق ذائقة معينة، تهدف إلى تسويق أنماط جديدة من الأدباء. وبسبب ترهل النقد وضحالته ومحاباته في معظم الأحيان، تبقى النصوص الجديدة بلا تقييم حقيقي، وترتقي بهزالها وتخلفها إلى مكان لم تكن تحلم بالوصول إليه. وهنا تشيع «جماليات» صنعتها المؤسسات وخلقت لها شروط تسويق لا تعني القارئ ولا المجتمع.
وبالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية، لا يمكن أيضاً لأي متابع لجهات النشر والمواضيع المنشورة، إلا أن يدرك المصالح السياسية التي تتورط بها المؤسسات الثقافية في عملها.
إن الزمن العربي، منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى الآن، زمن تخلف بامتياز، تراجعت فيه الفنون والعلوم، وانسحب منه الشاعر بخجل، ولم يعد هو الناطق باسم القبيلة، إذ وقعت القبيلة تحت سلطة المال، وقد تأسست فيها حالة من العقم الإبداعي متساوقة مع سلطة مجتمعية قبلية جديدة، تعزل الشعراء بدل أن تكرمهم، وتنحيهم بدل أن ترفع قصائدهم على راياتها.