، إذ لا شكّ في أنّ تأثير أيّ نصّ روائيّ سيبدو باهتاً في ظلّ غليان الواقع العربيّ، وتعطّش المتلقّي لاستقبال حدث حقيقيّ لا خياليّ، وانشغاله بقراءة المستقبل. لكن يمكننا الكلام على المرحلة التي سبقت الحراك العربيّ الأخير، والتي تعود إلى السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة من العقد الأوّل للقرن الحاليّ. لقد شهدت تلك المرحلة إنتاج روايات عربيّة مرهصة لما يحدث الآن، وقد التقت مسارات تلك النصوص بأفكار ما بعد الحداثة،
التي تكسر قيود النسقيّة برمّتها، ممّا جعل الرواية العربيّة تشكّل صعيداً مناسباً لتمثيل حالة ليبراليّة غير مسبوقة، وصلت حدّ الفوضى، وعدمت المعيار النقديّ، لعدم وجود منظومة أخلاقيّة تصدر عن نسق سائد، فاستعصت الرواية على التنميط، ممّا يعني تجاوز المؤرّقات السابقة، من مثل: سؤال الهويّة، وسؤال الشكل، وسؤال التاريخ، وسؤال الذات والآخر، وسؤال الحداثة... لتطرأ مؤرّقات نقديّة جديدة، تبحث في ما إذا كانت هذه الفوضى خلاّقة، وستفضي إلى المزيد من الحالات المعرفيّة الجماليّة، أو في ما إذا كانت ستفضي إلى إخفاق معرفيّ جماليّ، يدمّر النوع، ويختصره إلى وجهات نظر شخصيّة، أو رغبات رعناء في النيل من العالم، تصير معها الرواية معركة شخصيّة، وتفقد وظيفتها الجماليّة في جعل حياة الإنسان أقلّ شقاء.
إنّ من يقرأ نصوصاً من قبيل «في كل أسبوع يوم جمعة» لإبراهيم عبد المجيد، و»رماد الحياة» لحسّونة المصباحي» و»وقوف متكرّر» لمحمد صلاح العزب، و»صائد اليرقات» لأمير تاج السرّ، و»الطنطوريّة» لرضوى عاشور، سيدهش من درجة التطوّر التي وصلت إليها الرواية العربيّة في قدرتها على أن تكون بنية استعاريّة للحياة، لا يمكن للمتلقّي إلاّ أن يجد له موقعاً أصيلاً فيها، فتلك النصوص على الرغم من مساراتها المختلفة رؤية ولغة وبناء، تتشابه في كونها وجهات نظر شخصيّة لكنّها بالغة الأهميّة بالنسبة إلى الجميع، وما ذلك إلاّ لأنّها تحوّل الوجودات الخاصّة للبشر إلى المعنى الواسع للوجود. وما دام الشرط الروائيّ قد تحقّق بالشكل الأدنى، أي الشرط الإنسانيّ، فلن تهمّ في ذلك البنية النصيّة التي قد تكون مبتكرة وموازية للعالم الحقيقيّ، كما تجلّت في نصّ إبراهيم عبد المجيد القائم على واقع افتراضيّ، أو قد تكون النقيض لذلك تماماً، كأن يكون للنصّ علاقة عضويّة صريحة بسيرة الروائيّ، كما في نصّ حسونة المصباحي الذي سمّاه نصّ العودة، وقد يكون سرد يوميّات ذات محاكية لذوات كثيرة جدّاً كما في وقوف متكرّر، مثلما قد يكون سرد حالة مجموعة بشريّة أيقونيّة، كما في نصّ رضوى عاشور، إذ تظهر في مثل هذه النصوص فداحة العام من خلال سرد الخاصّ، وبذلك تتحقّق فكرة أنّ السرديّ هو وحده النقديّ، من غير اعتماد توجيه الانتقاد لأيّ شيء، أو لأيّ أحد.
ولعلّ السؤالين الأكثر إلحاحاً حول مستقبل الرواية العربيّة، يتعلّقان بعلّة وجود الرواية العربيّة اليوم، و بشكل آخر هما: لماذا يكتب الروائيّون العرب اليوم؟ وهل ستستمرّ الرواية في ألقها بعد الحراك العربيّ الأخير؟
قد يكتب الروائيّون اليوم بسبب ما تبعثه عمليّة الخلق من مسرّة في النفس، وقد يكتبون تحت ظلّ الرغبة القديمة في النبوّة، فهم لا يتخلّون عن دور النخبة التي تحمل مرض الوعي الفرديّ وتتنازع عليه مع الساسة، في أنّ كلّ فريق يمتلك الحقيقة، وأنّه على صواب.
لكنّ روائيّ اليوم، بوصفه مخلّصاً، يكتفي بأن يعرض للمتلقّي كيفيّة التعايش مع أزماته، من غير الانتصار عليها، ذلك أنّ الأزمات الراهنة أكبر من كلّ منهما، لأنّ مصدرها غيبيّ أو تاريخيّ، وعلى كليهما، الروائيّ والمتلقّي، بالخلاص الفرديّ، فالتعايش والاستمرار هو الانتصار بحدّ ذاته، إذ ليس ثمّة إمكانيّة في عالم ما بعد الحداثة للانتصار الساحق، أو للهزيمة الساحقة، كما كان الأمر عند أوديسيوس، أو الدون كيشوت، ففي عالمنا تصطرع القيم الإيجابيّة بعضها مع بعضها الآخر، لا مع القيم السلبيّة، فليس من حيّز سوى للحقيقيّ أو للعادل، من غير إمكانٍ يتيح لهما الاجتماع معاً، أمّا الخيّر فبات في منتهى النسبيّة. إنّ هذا الصراع المأساويّ للقيم هو ما يشكّل المحفّز الرئيس لبقاء الرواية، والذي يتجلّى في انفصال الحقيقة التي هي شأن عام، عن القيمة التي هي شأن خاص.
إنّ مهمّة هؤلاء الروائيّين صعبة للغاية، ففي حين امتلك فيه الروائيّ في السابق جماعة، أو جمهوراً يهتف له، وهو ينتشي بذلك الهتاف، يبحث روائيّ اليوم عن جماعة، أو عن أتباع، مثل مرشد روحيّ، وهو لن يجد أتباعاً، إلاّ إذا كان معنى الحياة الذي يلامسه في نصّه سيصاقب المعنى العام للوجود، فالناس يهتمون بوجهات نظرك الخاصّة بقدر ما يهتمّون بتصفّح بروفايلك على الفيس بوك مثلاً، وكلّما اشتركت معهم في الخاصّ، صاروا أصدقاء لك، ولعلّ ذلك يعيدنا إلى أصل نظريّة الأدب، التي تُعظّم الأغراض الكبرى: الحب والكره، الخيانة والوفاء، التعاسة والفرح، الإخفاق والإنجاز.
تمتلك الرواية حظّاً سعيداً في أنّها تستطيع تبديل مواقع عناصرها بين المتن والهامش، وبذلك توهمنا بأنّه مازال هناك أعماق أو مكامن تشتغل عليها، لكن هي في الحقيقة تنقّل الضوء أو العين الثاقبة من مكان إلى آخر. إنّ ما يميز الرواية اليوم هو وعي الروائيين بقضيّة البحث عن المعنى، أو تحديد وجهة نظرهم النسبيّة عن الحياة، فبعد أن فقدت الميتافيزيقيا سحرها، ولم يبق ما هو تحت الطاولة في حقل الجسد أو السياسة، تحوّلت الأسئلة التي لم تكن ضرورية في يوم إلى ضرورة، وراحت الرواية تعنى بطعام رئيس الوزارة، وبلباس زوجته بقدر ما تعنى بالذين يموتون جوعاً لا في أوغندة أو الصومال فحسب، بل في شوارع الرياض الخلفيّة، ولم تعد تعنى بفساد السلطة فحسب، بل بنقص المياه، وبالتجني على مصادر الطاقة النظيفة، كما لم تعد تعنى بإخفاقاتنا في الطموح والحب فحسب، بل بإخفاقات البشريّة التي تتجلّى في عالم التوحّد، والمنغول، وذوي الاحتياجات الخاصّة.
كلما تطورت الرواية وحقّقت روائيّها، بتنا نخاف عليها من النفاد، لكن ما بدا حتّى الآن هو اتساع إمكاناتها ثقافياً، أي معرفياً وجماليّاً، مع هاجس النهاية، وذلك مثلما تتّسع إمكانات الحياة مع زيادة وطأة هاجس الموت، ولعلّ التفكير في البحث عن موضوع للرواية بحد ذاته، يؤجل الرعب الذي يمكن أن ينتابنا جراء استسلامنا لشعور عدم الجدوى من الحياة، والذي يعني تماماً الاستسلام لنهاية الرواية، ممّا يشير إلى أنّ زمن رواية عربيّة جديداً، سيبدأ بعد حين ليس ببعيد.