وهكذا عدت إلى بعض المصادر أتسقط أخبار (الظرافة والطرافة) من المعجم الفريد (أقرب الموارد) للشرتوني إلى (المستطرف في كل فن مستظرف) للأبشيهي، ثم (أخبار الظراف والمتماجنين) لابن الجوزي و(الظرف والظرفاء) لأبي الطيب الوشاء.
في باب الظرف ينقل ابن الجوزي ماذكره أبومحمد التميمي عن عمه إذ قال: حكى لي جماعة أن رجلاً تقدم إلى قاض هووزوجته، فقال: خاصمتني.
وقالت: أنا أظرف منك.
فقلت: إن كنت أظرف مني فأنت طالق ثلاثاً.
فقال القاضي: الظرف صفات تذكر، فليذكر كل واحد منكما ما يرى أنه تفرد به!. فقال الرجل: مرها فلتصف من نفسها.
فقالت: والله ما أعرف لنفسي حالاً أتفرد به، توجب كوني مقدمة على غيري في حدود الظرف.
فقال الزوج: فقد سبقتني بجميع حدود الظرف بهذا القول، وأراها قد حرمت علي لكونها أظرف.
فقال القاضي: كذا عندي الحكم.
الطريف هوالحديث والظريف حاذق
كيف يمكن إذاً أن يلتقي الظريف بالطريف، الشرتوني يقول أطرف الرجل: أتى بالطرفة أي الحديث الجديد، ومن صفات الظريف أنه حاذق، فهل كان كاظم معروف ظريفاً وطريفاً معاً، وماهوالحديث الجديد الذي أتى به في تلك الأيام من سنوات الخمسينيات في القرن الذي مضى؟
كاظم معروف: بث مباشر
سمعت باسمه أول مرة عام 1952، كنت عند الحلاق في المساء، والراديومفتوح على إذاعة دمشق، في انتظار دوري لأكون بين يدي المعلم على الكرسي الدوار الأنيق، سمعت أحد الزبائن يطلب منه أن يرفع صوت الراديوقليلاً، فإنه لم يسبق له أن سمع من قبل بمثل ماتقدمه الإذاعة، كان كاظم معروف في «بث مباشر» كما نقول هذه الأيام.
التقينا بعد خمس سنوات
بعد خمس سنوات تقريباً قدر لي أن أعرف هذا الفنان وجهاً لوجه، أكثر من ذلك، فقد جمعتنا غرفة واحدة في الباخرة السوفييتية (القرم) التي جاءت إلى ميناء اللاذقية، كي تقل الوفد السوري إلى مهرجان موسكوالعالمي للشباب والطلاب، صيف عام 1957، وكان تعداد أفراده يبلغ ستمئة، بينهم مئة رياضي.
أدباء وفنانون وكاظم معروف
وكان في الوفد أدباء أذكر منهم ليان ديراني وحسيب كيالي وشقيقه مواهب ومحمد الحريري وحنا مينة وصلاح دهني وملاحة خاني وعزيزة هارون، وبين الفنانين عازف الكمان الكبير ياسين العاشق والمطرب معن دندشي والملحن مدرب رقصة السماح عدنان منيني، وكان معهم أيضاً كاظم معروف، والزعيم الفنان فخري البارودي.
كان كاظم معروف ربعة، ليس بالطويل ولا القصير، أسمر البشرة، خلته أول ما رأيته بعينيه السوداوين وشعره الأسود أيضاً، وملامح وجهه، عراقياً.. ولكن ظرفه وطرافته، يوحي بهما مظهره مباشرة، بل إنك لتظن أنه يهيئ نفسه ليروي نكتة أونادرة.
كاظم أدهش.. على المسرح
وعندما ارتقى خشبة المسرح، أحد مسارح المهرجان في موسكو، فإنه أدهش الجمهور، ذاك أنه تفرد بفن لم يسبق لأحد في العالم أن طرقه، كان أولاً يقلد الآلات الموسيقية الشرقية بفمه وأنفه، يردد بين شفتيه حيناً وينفخ شدقيه حيناً آخر، مقلداً أصوات العود والكمان والقانون والناي.
وكان كاظم يتمتع بصوت لا أقول «رخيم» لكنه مقبول، ولذلك فإنه يغني في أثناء تقليد الآلات بعض المواويل الشرقية والليالي، وعندما يفرغ من هذه «الوصلة» الفنية، فإنه ينتقل إلى وصلة أخرى، تمكن تسميتها ميكانيكية أوآلية، فماذا كان يصنع في هذه الحال؟
وصلة كاظم الميكانيكية
كان يقلد صوت الطائرات، إذ تشرع بالصعود ومغادرة المطار، حتى إذا استقرت في الفضاء، كان لها صوت آخر يجيد كاظم تقليده تماماً، ولم يكن يقلد أصوات سيارات الخمسينيات فقط، بل كان يرجع إلى سيارات الثلاثينيات التي كان تدار بـ«المانويل» وهوقضيب حديدي ملوي، يدخل في مقدمة السيارة، حتى يبلغ المحرك، ثم يدار فيصعد ذلك الصوت الذي يظهر من فم كاظم.
النكتة ووجهه يضحك
وكان يسمعنا في غرفتنا في الباخرة، بعض ما في ذاكرته من نوادر ونكات، ويروق له ترداد نكتة كنت أعرفها، فإن ثلاثة مصلين مرت أمامهم قطة، فقال لها الأول: بست، يريد أن يبعدها.
فقال الثاني: لَهْ.. لَهْ تكلمت ففسدت صلاتك.
وعندئذ قال الثالث: الحمد لله أنني لم أفتح فمي.
كان كاظم يروي النكتة، وتعابير وجهه الضاحك وحدها تكفي لانتزاع الضحك، فرحم الله كاظم معروف.