الأناقة,هذه الرغبة في الإمتاع والتمتّع،هذا البهاء الروحي والاحتفال الدائم بالحياة،رثاها برحيلهم الكثير من الرائعين وأمراء الجمال،قال لي ساحر دمشق وفيلسوفها (عزمي موره لي) يوما:إنّني سأموت احتجاجا على غياب الأناقة.
كان لي فرصة التعرّف إلى أشخاص صنعوا من الجمال والظرافة والأنس والإدهاش, وهم من أجيال متباينة جاؤوا من أماكن مختلفة وكأنّهم على موعد مع البهجة،بعضهم أردت تحيته في الصحافة عبر بورتريهات تشبهنا مثل مصطفى الحلاج الذي كتبت عنه (رحلت اللحية التي نبت فيها رجل)وأبو عدنان دغستاني في(البارون المفلس)ومحمد كنايسي في (قيروان القيروان)وأمير البزق في (وتر من الشمس)و برهان بخاري في (ناب ينهش لحم الظلام).
وبعضهم تبادلت معهم أطراف إعجاب صامت كأحمد وعلي الجندي وممدوح عدوان ونايف بلّوز ودعد حدّاد وخالد تاجا.
أمّا من أبصروا الشمس معي من أبناء جيلي فمتفرّقون في بلاد كثيرة كأبناء الحجال إلاّ أنّ قدري الملعون هو(صديقي) لقمان،صديقي الغاشم وعدوّي الودود،أضطرّ أن ألعب معه دور عبد السلام النابلسي حين يكون عاشقا (وما أكثر أفلامه)وعماد حمدي حين يكون مفلسا واسماعيل ياسين حين يكون مكتئبا ويلعب هوّ معي كل أدوار أهلي الغائبين وأحبّتي المشتهين في حنوّ متقن.
نختلف حتّى الثمالة ثمّ نمدح بعضنا البعض حين يخلد الآخرون إلى تفاصيلهم كديكين مهزومين على مزبلة شامخة.
الصّداقة حقّاعزاء الحياة،فلولاها ما أنعم الله علينا بالخصوم ولولاها ما وجدت الأسرار والمقاهي والنمائم الممتعة... والكتابات! ألم يقل ماركيز:أنا أكتب كي يحبّني أصدقائي.
....ما أروع-بل ما أصعب- هذا الشرط في الحظوة بمحبّة الأصدقاء:التفوّق والإدهاش والتميّز أي التصعلك على المفاهيم الراكدة وتحريكها لإعادة هضمها وإنتاجها.
الصعلوك إذاً هو ذاك الذي تحتاجه الخاصّة قبل العامّة ويستفقدونه في مواقف حرجة رغما عنهم ،انّه ذاك الذي يفعل ما تفعله في سرّك أو تتمنّى فعله،صديق ليس لك من صراحته بدّ ولكنّه يزورك دون استئذان ويحبّك دون تخصيص أو مقابل.
الصراحة ليست الوقاحة بالتأكيد وليست الاستقواء على القويّ بمن هو أقوى منه باسم الصعلكة لأّجل الفوز بعضم أكثر دسامة فهي فعل نبيل الغاية والوسيلة وقد أشار إلى ذلك المعلّم عروة بن الورد رافعا كلّ التباس في قوله:
لحى الله صعلوكا إذا جنّ ليله * مضى المشاش آلفا كلّ مجزر
تعرّف الناس إلى الصعاليك التاريخيين بمفهومهم الاعتيادي والسطحي وهم أولئك المارقون الذين يأخذون من الأغنياء ويعطون للفقراء على شاكلة روبن هود وغيرهم ولم ينتبهوا إلى «اعتبار» آخر كان قد ردّه هؤلاء للمهمّشين والمنسيين وهو توازنهم المعنوي أمام سطوة المظاهر والمفاضلات والتكريس الأعمى للقبح.
ما فعله صعلوك السينما العالمية وساحرها شارلي شابلن كان غاية في الأناقة لقد فعل ما فعلته الشمس وعجزت عنه الريح الهوجاء حين أجبرت المزارع على خلع ثيابه بدفئها الصامت والمتصاعد..
إنّ مشهد تزحلق عامل تنظيف في قشرة موز مثلاً لا يثير السخرية والإنتباه أمام تزحلق رجل بكامل أناقته وعنفوانه لذلك كانت ولا تزال الصعلكة هي فن إخجال المتأفّفين بامتياز ثمّ أنها تبدأ بإخجال النفس والسخرية منها أوّلا.
قال أحدهم: (أمشي وحيدا في الشارع،أردّ على التحيات العابرة،
هناك من يقبّلني ثمّ يشتمني بعد أن أمضي وهناك من يغيّر طريقه كي لا يراني وهناك من يعرّفني على صديقته ثمّ يقول لها أفّاق،سافل و.. موهوب).
هذا هوّ الصوت النّشاز الذي شجّعني على الغناء في الجوقة وطباعة مجموعتي الشعرية (الجار الثامن).
hakemmarzoky@yahoo.fr