هؤلاء الذين استطاعوا أن يتركوا بصمة جعلتهم مفارقين للكثير من السائد في هذا النوع من الفن التشكيلي الذي يُزحم الساحة التشكيلية السورية، ذلك إن ثمة دائرة، هي الدائرة التراثية، تلك التي تمنع الخروج غير ممن استطاع أن يُغاير، ويضيف البناء المُعاصر على شغل هؤلاء «التراثيين» الذين استطابوا العيش ضمن هذه الدائرة.
عن الخلط الظالم
ومع ذلك، غالباً ما يُعاني البحث في الجماليات العربية في التشكيل بين الخلط بين ما هو إسلامي، وما هو عربي، وفي هذا الأمر يجد الفنان أحمد معلا - على سبيل المثال - إشكالية كبيرة، فأغلب الذين درسوا هذه الجماليات أكدوا على هذا الخلط، الأمر الذي ألغى جماليات الفن العربي عبر آلاف من السنين قبل الإسلام، كما أدى هذا الخلط أيضاً إلى ظهور تيارات فنية عربية أطرت الكثير من التجارب الفنية التشكيلية العربية ضمن أطر ضيقة كاقتصارها على اللوحات الحروفية، والخط العربي، والزخرفة الشرقية، وهذا ما اعتبره - ولاسيما الغربيون - إنه كل ما لدى العرب من فنون تشكيلية.
وثمة من يرى، إن من يقف وراء هذا «التأطير» أكثر من جهة، منها مثلاً ما جاء تلبيةً لحاجة السياحة العربية التي أصبحت تصر على ألا ترى في الفن التشكيلي غير هذه الاتجاهات التي تمّ الترويج لها، حتى أنهم لم يعودوا يقبلون اللوحة التشكيلية العربية خارج هذه الحدود الضيقة، ومن هنا يمكن تفسير شهرة بعض الفنانين التشكيليين العرب الذين أقاموا في المهاجر الأوروبية، وكان شغلهم طول الوقت على اللوحة الحروفية.
الدائرة التراثية
كما يكمن وراء الحراك في مجال الرقش واللوحة الحروفية بعض التيارات السلفية، سواء كانت سلفية دينية، كهروب من التشخيص والتجسيد، أو سلفية ثقافية لاسيما في بعض الدول الإسلامية والخليجية العربية التي أغدقت الأموال الطائلة لإنتاج مثل هذه الفنون، وهذا برأي الكثير من النقاد والفنانين ظلماً لتراكم ثقافي وحضاري عبر آلاف السنين قبل الإسلام، إضافة إلى أنه شكّل تحدياً كبيراً للوحة التشكيلية العربية وانتمائها إلى الفن التشكيلي العالمي !!
بعض الآراء في هذا المجال، لا يرى في هذا النزوع الحروفي والزخرفي «تشكيلاً» والدليل ليس ثمة لوحة حروفية تُدرس في كليات الفنون الجميلة، وإنما ثمة معاهد تساعد في تحسين رسم الخطوط بشكلٍ جميل. ويأتي إدخال الخط العربي كفن تشكيلي أمراً عبثياً، لأن الخط العربي له جماليته وحضوره الخاص به، وأما بالنسبة للوحات الحروفية، فهي تؤذي الفن التشكيلي وجمالية الخط العربي، لأن المعنى فيها يغلب على التشكيل، الأمر الذي يُسبب ضعفاً بالتشكيل، وما لجوء الحروفيين إلى هذه اللوحات، إلا لأنه ليس لديهم القدرة على صياغة النص التشكيلي البصري بعيداً عن الحروف، وفي محاولتهم لصياغة لوحات من الحروف أنما يؤذون التشكيل والحروف معاً، والأمر هنا لا يعدو سوى هروب لإيجاد صياغة جديدة، لكنها برأي البعض قد فشلت.
رأي آخر
رأي آخر يرى إن الحروفية والخط العربي والزخرفة الشرقية، أنقذت اللوحة التشكيلية من العبثية التي وصلت إليها، وبرأيهم إن الفن الحديث وصل إلى نقطة الصفر، وليس أمامه سوى العودة إلى الجذور لمعرفة معنى وجوهر التمثال واللوحة، بعدما وصلا على نوع من العدمية، كما يرى أن عملية التجريد في الفن الإسلامي هي النسغ الأساسي الذي ننهل منه في عملية التجريد المعاصر، والذي جذوره في الرقش العربي، رغم أن هناك من يقول: إن الرقش بصورة عامة كان نتيجة التحليل والتحريم، وهنالك من يؤكد أن الرقش هو نتيجة نزعة الفنان العربي للمطلق، وأن ما يتم في عالم التجريد الغربي، هو البحث عن المطلق، أي كما يفعل الفنان العربي.
تنويع في المشهد
وثمة رأي ثالث يميل إلى التصالح مع هذا النوع من الفن التشكيلي، حيث يأتي تنويعاً في المشهد التشكيلي، لاسيما إذا ما جاء متناغماً مع فنون قديمة، منها على سبيل المثال الفنون السورية الموغلة التي عرفتها البشرية منذ ما يُقارب من عشرة آلاف سنة، وهي سابقة بكل الأحوال لفنون الرقش والزخرفة والحروف بكثيرٍ جداً من مئات السنين، وهذا ما أدركه وانتبه إليه الكثير من الفنانين السوريين، حيث أفعموا لوحتهم، وأعمالهم التشكيلية بشكلٍ عام بعشرات الرموز القديمة من ميثولوجيا الجغرافيا السورية القديمة، وقدموا لوحات تمدّ مجساتها طول الوقت صوب سورية العتيقة لتلقط عشرات الرموز الفينيقية، والآرامية والأوغاريتية، وغيرها، وهذا ما يرد الحيف والغبن الذي قد يلحق بالفنون القديمة التي أثرت سورية في الأزمنة الغابرة، ومع ذلك، فإن اللوحة الحروفية تُفيد ربما في وضع معالم إضافية وتنويعاً في اللوحة التشكيلية لتكون بهوية سورية، دون أن تقطع صلاتها مع اللوحة العالمية.
alraee67@gmail.com