من أجل الوصول إلى الخلاص لابدّ من تشرّب الخطيئة.. على المرء أن يُقبل على الخطايا الكبيرة والتافهة.. أن يبلغ الموت بكل اشتهاءاته وصولاً للانعتاق.. كما فسر هنري ميلر القول السابق لآرثر رامبو في كتابه الذي ألفه عنه بعنوان:(رامبو وزمن القتلة)،.
ويرى ميلر، من بين كثيرين غيره، أن الشعر الفرنسي الجديد مدينٌ بكل شيء لرامبو.. لذاك الكائن الأسطوري، كما يسمّيه.
عن عبقريته، جنونه، مغامراته، اختياره التلاشي كشاعر في أوج عطائه، وأشياء أخرى، جاء مؤلّف ميلر.. عن مَن اعتاد الحياة الحرة المغامرة المتوحشة، عن المتمرد، الملعون، الطريد.
هو ضحية توهمه أن الحرية يمكن بذلها بوسائل خارجية.. فأراد الانعتاق بتحقيق أمانه المادي.. ليكون التطواف خياره ما بين الجزيرة العربية- اليمن، أفريقيا، وقبرص.
ولما كان القرن التاسع عشر، قرناً محيراً بمسألة الإيمان.. اختزل رامبو الصراع في صفحات قليلة.. صحيح أنه غلّف حياته بغلاف ملغز..لكنه كان الأكثر صدقاً قياساً إلى أدباء ومفكري عصره.
يقول ميلر: (كان نصيبه أن يغدو الشاعر الصادم لعصرنا، ورمز لقوى التمزّق الماثلة اليوم. كان قدره... أن يقع في شرك حياة مليئة بالأحداث سينهيها نهاية غير مجيدة. حين قال رامبو:إن قدره يعتمد على «فصل»- أي فصل في الجحيم- فأظنه كان يعني أن «فصل» سوف يقرر مسار أفعاله المقبلة... ولنا أن نعتقد أنه بكتابة «فصل»، قد أسرّ لنفسه أنه لم تعد به حاجة إلى التعبير على مستوى الفن. باعتباره شاعراً قال كل ما يمكن أن يقول).
في عمر الثانية عشرة كان رامبو ورعاً. لكنه بعد ثلاث سنوات أخذ يهتف: «بالجسد، بالرخام، بالزهرة، بفينوس، أؤمن». كما قال: إن العالم سيجيب، سيهتز «مثل قيثارة هائلة في ارتعاشة قبلة هادئة».. هي العودة إلى البراءة الوثنية.
وكأنه كان، وفق ميلر، في حالة غياب تام عن هذا العالم واتصالٍ بعالم آخر جميل. ثلاث سنوات أخرى تمرّ، وفي الثامنة عشرة فقط، نجده في نهاية حرفته الشعرية.
في جحيمه، عاش الجحيم، مارسه بروحه، وعليه أن يحياه بجسده. عرف الجوع، التشرد، الإذلال، الرفض، السجن، ومارس الانحطاط والرذائل.
عمر الإبداع لدى رامبو لم يتجاوز الأربع سنوات، ويجعلها ميلر ثلاث، ومع ذلك كان له من التأثير وقوة الحضور ما دفع الكثيرين لدراسته وحتى التشبه بفنه.
عمله الأخير كان بسن الثامنة عشرة وبعدها قسم حياته إلى قسمين متساويين. نجح بأن يجعل نفسه يطرد من السماء، سماء الشباب. ذاك الشاب اللامع الممتلك كل المواهب والمحتقرها، يقلب حياته إلى اثنتين. حسب ميلر، الشيطان ذاته لم يكن قادراً على تدبير عقوبة أكثر قسوة مما فعله رامبو لنفسه... لقد تنازل وهو على عتبة الرجولة عن كنزه (العبقرية أو الإبداع).
من المقاطع الإبداعية التي تظهر خياره وتوضحه، الآتي:
«إن ظلّت روحي، منذ هذه اللحظة يقظة، فإننا سنصل سريعاً إلى الحقيقة، التي قد تكون محيطة بنا الآن، بملائكتها المنتحبة!...
لو أنها كانت مستيقظة حتى الآن، لما استسلمت للغرائز المنحطة، منذ عهد منسي! لو أنها كانت مستيقظة، دوماً، لأبحت بكامل الحكمة!...»
ويتساءل ميلر: ما الذي حجب رؤيته.. ؟ لا أحد يعلم.. فظلّت حياته سرّاً مثل عبقريته.
لأنه أحبه كثيراً وتأثر به، حتى أنه يقارن بين نفسه وبين رامبو في بداية دراسته هذه، يرى هنري ميلر أن أمثال هؤلاء الرجال يكون الاسترقاق هو البعبع الكبير سواء أكان وطناً أو كنيسةً أو مجتمعاً.. لذا يمضون حياتهم يكسرون الأغلال.
صرخ رامبو: «لا يوهمني شيءٌ أبداً»
بينما يرى ميلر: «حياته كلها لم تكن سوى وهم كبير».
lamisali25@yahoo.com