تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أصحــــــاب الــــــرؤوس المظلمــــــة

ثقافة
الأحد 30-8-2015
عقبة زيدان

ستضطر ماريا كوريللي - مرغمة وتحت ضغط ديمقراطية الذكورة البريطانية الأرستقراطية - أن توقع أعمالها الروائية باسم رجل (برايم ستوكر) وستضطر كذلك - تحت ضغط غباء المجتمع الأرستقراطي - إلى الدفاع عن المرأة، وعن إبداعها وقدرتها على الإنتاج الأدبي كالرجل تماماً.

الأرستقراطيون طبقة من أصحاب الرؤوس المظلمة، كما تسميهم كوريللي في روايتها الجميلة (بؤس الشيطان). إنهم - أي أصحاب الثروة - بلهاء وعديمو الشفقة والموهبة والثقافة، وينظرون إلى عظماء الشعراء والفلاسفة نظرة دونية، ويقولون عنهم إنهم مجموعة من المساكين. وهنا تذكر كوريللي على لسان لوتشيو الشيطان المقطع الآتي: «تصور بمخيلتك إحدى السيدات من زمن إليزابيث تسأل صديقتها: هل تسمحين يا عزيزتي أن أعرفك على السيد ويليام شكسبير؟ إنه يؤلف المسرحيات، ويقدم عملاً ما في مسرح غلوب. وأقول بتحفظ إنه يمثل قليلاً، وهو مسكين فقير، ولكن هذا النوع من البشر طريف!».‏

انظروا إلى هذه العبارة (هذا النوع من البشر طريف). ألا يؤكد ذلك رأي كوريللي القائل إن الأثرياء يمتلكون بلاهة لا تطاق، وغباء وعنجهية؟ ألا تسمى هذه الخصلة الأرستقراطية ببلاهة الدم الأزرق؟‏

شكسبير كان فقيراً، كما سقراط، كلاهما نالا المجد، لأنهما لم يطلبا استعطافاً من أحد، ولم يسمحا لهؤلاء الأغبياء أن يقيموا إنتاجهما. لا أحد الآن يتذكر رهط البلهاء الأثرياء الذين كانوا يسخرون من شكسبير في عصره. ولا أحد يعرف من سادة الصالونات المخملية آنذاك في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. من الذي بقي إلى الآن؟ بقي عطيل وماكبث وهاملت ذلك الأمير الدانماركي المضطرب والقلق والذكي. والكل - الآخرون - ماتوا كما تموت بومة في إحدى الخرائب.‏

بعد كارثة ألمت به، وبعد فقدانه لثروته، ومعاناته مع الحاجة، أدرك اللورد إلتون أن الثراء ليس شيئاً مهماً ولا يمنح السعادة، ويقول في رواية (بؤس الشيطان): أنا أعتقد أن أسعد إنسان في الوجود هو سقراط، الذي لم يكن يملك سوى كرسيين فقط، واحد له والآخر لصديقه، الذي لم يجده بعد.‏

معظم شخصيات (بؤس الشيطان) قلقة غير مستقرة نفسياً وعقلياً ولا تجد هدفها. جيفري تيمبست الراوي روائي فقير مغمور، تأتيه ثروة هائلة من عمه المتوفى، فيصبح بين ليلة وضحاها أشهر روائي في بريطانيا. المال هو الذي صنع الشهرة. يحسد جيفري الروائية ميفس كلير ويغدق عليها حقده واتهاماته بعدم الموهبة. فيما هي تستمر في إنتاجها الروائي، مفضلة العزلة والابتعاد عن المجتمع الأرستقراطي.‏

يدرك جيفري أن موهبتها حقيقية، ولكنه لا يعترف بالأمر. يتزوج من سيبيلا إحدى أرستقراطيات المجتمع، فتخونه مع صديقه الوحيد لوتشيو الشيطان الوسيم والغني. فيدرك جيفري أنه إذا حاز الفقير على حب امرأة، فهو يعلم أن حبها له خالص، لا تشوبه المنفعة الشخصية، بينما نجد أن الغني لا يثق مطلقاً بالحب الحقيقي. والإنسان الغني جداً لا يمكن أن يثق بالصداقة أيضاً، فهو محروم إلى الأبد تقريباً من لذة هذه المحبة السامية، القوية النبيلة.‏

يدمر الشيطان لوتشيو حياة الجميلة سيبيلا زوجة جيفري فتنتحر. ومن ثم يحاول تدمير ميفس كلير النقية الصادقة المبدعة، فيفشل، وتكتشف فيه كلير روح الشيطان وتحاول تحذير جيفري الذي لا يصدقها. وأخيراً يستيقظ جيفري من سطوة لوتشيو، ولكن ثروته تكون قد ذهبت كلها. وعندما تحاول الشرطة إعادة ثروته إليه، يقول لرئيس قسم التحقيق: «فلتبق هذه النقود هناك. ولن أحاول مطلقاً إعادتها. فإنني أفضل أن أبقى إنساناً حراً! فالإنسان الذي يملك نقوداً كثيرة، يساهم بوجود اللصوص والمحتالين من حوله. فهو لا يمكن أن يتوقع النزاهة».‏

استمرت ميفس كلير بالنجاح الأدبي، والسيطرة على عالم القراء في بريطانيا بأسرها. وارتفعت إلى قمة المجد عبر موجة واسعة من حماسة القراء والنقاد. ويكتشف جيفري ظلمه لهذه المرأة ولأدبها. إنها تستحق الاحترام لأنها لم تستخدم أموالها لشراء ذمم النقاد كما فعل هو.‏

(بؤس الشيطان) رواية من نهاية القرن التاسع عشر، عن ذلك المجتمع البرجوازي وتعامله القاسي مع أبنائه. مجتمع كل ما فيه ادعاء وكذب ونفاق وقتل للموهوبين. مجتمع يتغنى بأنه صانع الديمقراطية ومهد الحرية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية