ومنذ ذلك الحين بدأت أكتب وأول مرة قدمت إلى أمي الفتاة التي أحببتها, رحبت بها وأكرمت وفادتها وسقتها قهوة البيت, وأطعمتها ما عندها من الحلوى والملبس والسكاكر فغادرت سعيدة, اقتربت أمي مني وقبلتني من جبيني هامسة (شبت وما تبت ياابني).
أذكر في ذلك الوقت أن تعرفت على الكاتب الكبير عادل أبو شنب, وكان في السادسة أو السابعة والعشرين, وعلى رأسه تاج من الشعر الأسود الفاحم, قدم لي سيكارة ثم قال لي بحسرة: (ختيرنا) واستغربت أن يقول ذلك وهو في عز الشباب, فماذا سيقول الآن وقد بلغ من العمر 75 عاماً أطال الله عمره, وأصبح ذاك الشعر الأسود أبيض كقمة جبل الشيخ, وهذه مناسبة بأن هذا الجبل سمي شيخاً, لأن الثلج يعلو قمته على مدار السنة, كأنه شيخ ملأ رأسه الشيب, وصرنا نقول الآن فعلاً, عادل وأنا وبقية الرفاق (حقاً قد ختيرنا).
كنت قبل أشهر جالساً في مقهى الروضة في دمشق مع عادل والفنان مروان شاهين وابن أختي الصحافي فراس الدليمي الذي يجتهد كي يكون كاتباً وصحافياً مثل خاله.. ومع أنني نصحته ألا يسلك هذه الدرب الوعرة التي قد تؤدي به إلى المهالك.. ولكن يبدو أنه ما زال مصراً (بلا طول سيرة) دخل علينا صديقي العريق نصر الدين البحرة فجلس إلى جانب ابن أختي الذي لم يبلغ الثلاثين بعد.. فنظر مروان إلى فراس ونصر الدين, ثم أشار بسبابته إلى شعرهما وقال على مسمع الجميع: انظر الفرق.. شعر فراس طبيعي كما خلقه الله.. وشعر نصر الدين مصبوغ فاحم كأنه لا يليق لصاحب 70 عاماً. ضحك نصر.. وقال: (المرا هيك بدا).
في الحقيقة لا أحب للرجال أن يصبغوا شعرهم, وهذا تقليد للنساء, ومع ذلك فقد شاعت هذه الموضة بين الرجال خصوصاً في الجزيرة العربية والعراق وكثير في سورية الطبيعية.. لكن العمر يفضحهم.. فالله خلقنا كي نعيش عمرنا مع تطوره من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة.. ولكل مرحلة خطوطها وحظوظها.. وما هو طبيعي يظل طبيعياً وما هو من صنع أيدينا يظهر على حقيقته.
يقال: إن الشيب زينة الشيخوخة, وإن الشعر الأبيض رمز الحكمة, قال شاعر قديم:
لقد شاب رأسي ورأس الدهر لم يشب
إن الحريص على الدنيا لفي تعب
وقد حفل التراث العربي بالشيب والمشيب في كثير من الأقوال والأشعار والحكم والحكايا الطريفة, وليسمح لي قارئ هذه الأوتار, أن أقدم له نماذج من هذا التراث العظيم في الشيب والمشيب..
يقال في الأساطير إن أول من شاب النبي ابراهيم الخليل وقد بلغ من الكبر عتياً, وفي الخبر: (أن الله تعالى يقول الشيب نوري وأنا أستحي أن أحرقه بناري) وفي حكاية: أن رجلين جاءا إلى النبي محمد (ص) شيخ وشاب فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ فقال عليه الصلاة والسلام كبر كبر, وبهذه الرواية: (من وقر كبيراً لكبر سنه, آمنه الله من فزع يوم القيامة). وعن النبي أيضاً: (ويقول الله تعالى وعزتي وجلالي وفاقة خلقي إلي, إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذبهما) ثم بكى الرسول فقيل له ما يبكيك يارسول الله قال أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله).
وقال ابن وهب: إن أصغر من مات من ولد آدم ابن مئتي سنة, فبكته الأنس والجن لحداثة سنة.. فتأملوا الآن نموت رضعاً في السبعين.
وقيل إن ملك الموت قال للنبي نوح (ع): ياأطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها? قال كرجل دخل في بيت له بابان فقام وسط البيت ساعة ثم خرج من الباب الثاني, ويقال: أطع أكبر منك ولو بليلة, قال الشاعر:
ياعامر الدنيا على شيبه
فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه
وعمره منهدم يخرب
وقال الشعبي:
الشيب علة لا يعاد منها, ومصيبة لا يعزى عليها.
وفي الروايات الجميلة أن رجلاً أشمط مر بامرأة عجيبة في الجمال فقال: ياهذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه وإلا فاعلمينا فقالت كأنك تخطبني.. قال: نعم. فقالت: إن في عيباً, قال وما هو قالت شيب في رأسي, فثنى عنان دابته فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة, ولا رأيت في رأسي شعرة بيضاء, ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك ما تكره مني, فأنشد, ويقال لابن المعتز:
رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي
فأعرضن عني بالخدود النواضر
وقال شاعر آخر:
قالت أراك خضبت الشيب قلت لها
سترته عنك ياسمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالت من تعجبها
تكاثر الغش حتى صار في الشعر
وقال شاعر:
أكان شيب العبد من نقرة القفا
وشيب كرام الناس شيب المفارق
قال ابن النقيب:
وكم كان من عين علي وحافظ
وكم كان من واش لها ورقيب
فلما بدا شيبي اطمأنت قلوبهم
ولم يحفظوني واكتفوا بمشيبي
ويبدو أن صبغ الشعر وخضابه ليس محرماً في الإسلام وقد جاء فيه: قال رسول الله (ص): (عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم وأعجب لنسائكم).
وعن أبي عمر الأنصاري: (رأيت أبا بكر الصديق (ر) يغير بالحناء والكتم). وقيل خضاب الحناء يصفي البصر, ويذهب بالصداع, ويزيد في البهاء:
تسود أعلاها وتأبى أصولها
وليس إلى رد الشباب سبيل
وقيل: وفد عبد المطلب بن هاشم على سيف بن ذي يزن, فقال له: لو خضبت شعرك! فلما رجع إلى مكة اختضب. فقالت امرأته نبيلة:
ما أحسن هذا لو دام, فقال:
ولو دام لي هذا الخضاب حمدته
وكان بديلاً من خلل قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة
ولابد من موت نبيلة أو هرم
وقال آخر:
ياخاضب الشيب الذي
في كل ثالثة يعود
إن الخضاب إذا نضا
فكأنه شيب جديد
فدع المشيب وما يريد
فلن يعود كما تريد
ولابد أن نعرج هنا على الشعر الحديث في الشيب والمشيب وفقدان الشباب, فظلت قصيدة عالقة في ذهني منذ أربعين سنة حتى اليوم قالها شاعر لبنان الكبير الراحل أمين نخلة, تختصر كل ما قلته وما قاله غيري في شيب الدنيا ومشيبها وهذا العمر الآفل إلى غير رجعة, أختم بها هذه الأوتار على وتر المشيب. يقول أمين نخلة:
أحمامة, تبكي على الصيف المودع, لا علينا
إبكي علينا, ياحمامة, واحملي دمعاً إلينا
نحن الذين هوى بهم فلك, وأسقط في يدينا
كنا الملوك على الشباب, وكانت الدنيا لدينا
كنا الغصون الخضر في كف الملاحة, والتوينا
كنا الرماح السمهريات العوالي, وانحنينا
نمشي ونهرع بالشباب, إذا مشى الناس الهوينا
إنا بنينا للشباب, ولم يدم ما قدم بنينا
يافائت الأيام, تسألك المدامع, أين أينا
إنما الأقسى في ما رويت أن يشيب القلب قبل أن يشيب الشعر, وهنا الكارثة.