تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كيف نفهم حقيقة ما يحصل؟

شؤون سياسية
الأثنين 28-3-2011م
بقلم الدكتور نسيم الخوري 

فعلاً كيف نفهم حقيقة ما يحصل في بلادنا الغارقة في القلق والخوف وماذا يعني لي هذا العنف المتنقل من غصن عربي إلى آخر يقوده التويتر الذي يعني فيما يعنيه في القاموس الأميركي العصفور الذي ينطلق في تغريده إلى درجة تلحق به كل العصافير التي تسحر بتغريده

فتروح تقلده حتى تتحول جوقات العصافير إلى فوضى عارمة لا حدود لها! أنا أصدق أن أجيالاً من العصافير العربية تبحث عن التغيير لكن قطعاناً رهيبة من الذئاب تندس بين العصافير كما في بعض الحناجر و الحركات والأغنيات وهي لا تنام خلف الشاشات التي تغطي أزمنتنا منذ أن حولت الدولة العظمى شعار الفوضى كثمرة لفحتها حرب تموز الإسرئيلية على لبنان فنضجت.‏

نحن في حمى تطبيق ملامح الأفكار الفوضوية! وتعني الأفكار الفوضوية في العلاقات الدولية رفض الدولة العظمى التي لا هم لها سوى تحقيق العظمة والاستمرار بها لمنظومات الدول والأنظمة القائمة كعامل مشترك يكفل مستقبل شعوب هذه الدول في سعي حثيث إلى قيام نظام مركزي عام قوي ظاهر أو مستتر له أدواته وعدده، ويعني رفض الدولة انتفاء النظام بسبب من غياب السلطة المنظمة، ولكن انعدام النظام الذي تورثه التفجيرات والثورات وغيرها من أعمال القتل والدس والتحريض الإعلامي والسياسي لتفكيك الدول، قد تكون له أسباب أخرى غير تغييب السلطة المنظمة، إنه يأتي أحياناً كثيرة نتيجة السلطات الممارسة نفسها التي تدفع بها التباساتها وتعثرها وتلبكها إلى مقترحات سريعة تولد أو تزيد من انعدام النظام، الأمر الذي يجعلها تميل ولو بالتفكير إلى قوة قسرية غالباً ما تعجل برحيلها وتضاعف من الانتظام العام أو الفوضى المنظمة.‏

هكذا تكون النظريات الفوضوية اختيارية أو مفروضة، وتكون جماعية تقودها جماعة، أو فردية.وغالباً ما يلتمس الفوضويون في تحقيق أفكارهم طريق الإصلاح، عن طريق الحوار أو عن طريق الدماء والثورة، ومهما كانت النتائج.‏

ويعتبر العنف والتمرد والمقاومة من ضرورات التغيير حيث يبدو في التنظيم العفوي والتلقائي أن التطور في المستقبل القريب سيجعل الدولة تختفي، ولا يتم إلغاء كل الأنظمة والقوانين إلا بعد رفضها بشكل كامل من الأفراد والجماهير، وفي حمى الفوضى، يصار إلى تأسيس الأنظمة معطوفة على عفوية هؤلاء وتلقائيتهم وإعيائهم، وهذه سمة للديمقراطية التي تدفعها أميركا اليوم نحو السطح وتلوح بها للشعوب الشرقية. إننا بالضبط أمام فكرة انهيار سيادة الدول بالمعنى التقليدي حيث تصب كلها تحت غيمة أميركا الدولة العظمى التي تطمح إلى حل عقدتها البريطانية الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغرب عن أراضيها، الشعار الكوني هو انهيار الحدود القائمة بين قطعان الدول والأنظمة ودكها كي ترعى كلها في الأرض الكونية،لكنه انهيار يمهد له وتعززه وسائل الإعلام في عصر فظيع من حيث تقدم الغرائز وتراجع العقل وفيض التحولات الهائلة على مستوى المصطلحات السياسية وعملية صناعة الرأي العام الحديثة. ما الفوضى المنظمة هنا؟‏

الفوضى المنظمة أو الخلاقة أو المبتكرة و تعني الفوضوية التي تبشرنا بها أميركا والتي وردت لأكثر من مرة على لسان مسؤوليها وكان آخرهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس فوق ركام قصف إسرائيل لضاحية بيروت،لكن كيف تحمل الفوضى التنظيم والابتكار، وهل يجوز أن نلصق بالفوضى أي صفة ايجابية؟ تعيدنا الصفات الإيجابية التي تلصقها الإدارة الأميركية بمصطلح الفوضى إلى الفكر اليوناني القديم، وخصوصاً إلى أرسطو الذي ربط ما بين الإبداع والترميم واعتبر أننا غير قادرين فعلاً على ابتكار جديد ما إلا عندما نعيد تركيب الأفكار والأشياء المهمشة وقبل التخلص منها أو في أثنائها فعندما يقع أو يتكسر هذا الكومبيوتر القائم في وجهي وأكتب مقالاتي على شاشته عادة لأرسلها إلى الجريدة مثلاً فيصبح قطعاً متهشمة غير صالحة للاستعمال، وليس لي من حيلة سوى رمي قطعه المتناثرة مع القمامة أو على قارعة الطريق، ولكن وأنا أهم برميها، يخطر لي فكرة أن أعيد تركيب بعضها بما يولد تمثالاً أو منحوتة حديثة أرفعها في جنينة أو صينية لتقديم القهوة أو مرآة جميلة، أو أقوم بفصلها وفرزها ليصار إلى استعمالها في الوقت المناسب لابتكار آخر أو ضمن وظائف وأشكال أخرى غير ذلك التي وجد الكومبيوتر لأجلها، فهذا يعني إعادة الابتكار والتنظيم من قلب الفوضى والتهشيم، وهذا ما يمكن تطبيقه على مستوى الدول والأنظمة والشعوب حيث تدب الفوضى والحروب والنزاعات بما يمكن أن يجعلها قطعاً وكيانات متشظية لايمكن إلا أن تفرض عند إعادة ابتكارها في أثناء إعادة تأليفها وتآلفها وتناغمها أنظمة أو دولاً جديدة في الشكل أو في المضمون، وكأننا أمام لعبة البازل/Puzzle/ المعروفة التي تجعل في فلسفتها كل أمر قابلاً للتفكيك وإعادة التركيب السهل والسريع والمتطلب الكثير من الاستراتيجيات العسكرية والإعلامية والسياسية القائمة في معظمها على الذكاء والابتكار، البازل هو أبسط لعبة للأطفال يمكنها أن ترشدنا إلى المعنى الفعلي لما نحن فيه ولما يمكن أن يؤلف اليوم ما تعرفه ونسميه الفوضى المنظمة!‏

غالباً ما يأتي الكلام الأميركي عن الفوضى المنظمة في معرض الكلام عن الشرق الأوسط المكبر، النسخة المعدلة وشديدة التطابق في مضمونها مع فكرة بيريز التي وضعت بعنوان الشرق الأوسط الجديد. إنها طريق السيطرة أو تسهيلها عن طريق التفكيك وإعادة التركيب لمنطقة شاسعة الأطراف تمتد من المغرب إلى ما بعد أفغانستان.‏

ويعني مصطلح الفوضى (Anarchie) سياسياً اللاسلطة أي انتقاء السلطة ومؤسساتها وغيابها وبعثرتها وربما تدميرها بيد شعوبها.‏

ويعني الجزء الأول من المصطلح An النفي أوالانتفاء ، بينما يقصد بالجزء الثاني منه (archie) السلطة.‏

وعندما اعترف الفيلسوف الفرنسي برودون برغبته في تأسيس الفوضى حيال تعقيدات العصر، قال في مؤلفه الشهير ما هي الملكية؟ 1960م : «أنا فوضوي» وقد فسر معناها بأنها الهمجية والتسيب واللانظام أو اللاقانون وترك الأمور تجري على غاربها ، تقودها الأهواء والنزوات والغرائز .‏

ألسيت تلك هي الحالة الغريزية العنفية التي تعود بالإنسان إلى الحيوان بالمعنى النظري ، أو تجعله في عودة نكوصية إلى النقطة الأولى تقديساً للدائرية في التفكير والتغيير والتحويل؟ أليست الفوضى هي انتفاء لأي رباط أوعلاقة أوتبرير بالمعنى الإنساني وحيث يصعب الفصل بين السلطة والقوة ، وهو مايؤدي إلى تقديس القوة وإشاعة العنف؟ وألا تسهل في حالات من هذا النوع من الفوضى امكانيات الدول العظمى في فرض الأفكار والخرائط والخطط الجاهزة ، على اعتبار أن البشر أمام مشاهد العنف والبطش والضياع يصبحون أكثر طواعية وأشد بساطة لربطهم بسلاسل القوانين، أي قوانين مهما كانت أشكالها وممارساتها ومراميها، ولو كان مستورداً في عنفها المنتظر من جهنم؟ يمكن لكاتب فرد أو فيلسوف أن يكون فوضوياً ،ولكن المجتمعات اليوم تبدو أنها تؤول إلى الفوضى المدروسة والهادفة والتي لشدة ماتصطحبه من حروب وقسوة، تجعل التغيير السياسي والاقتصادي والثقافي من المسائل الممكنة.‏

ويتضمن المصطلح العربي «الفوضي» بالياء المعنى نفسه ، لأن المجموعة الفوضية هي الجماعة التي يتساوى أفرادها ولايعود لهم رئيس أوقائد واحد.‏

من المؤكد أن برودون كان أول من استخدم مصطلح الفوضى تعبيراً عن الحد الأقصى للتقدم الإنساني السياسي ، وخصوصاً مع غرق الدول بالفائض من السلطات .‏

وعلى الرغم من أن مجمل المظاهر التغيرية التي جاءت تفسر الفوضى كانت تتجلى في الحركات الطلابية التي ولدت في بيركلي ( 1924) وترعرعت في برلين (1926) ووصلت إلى أوجها في باريس (1968) عندما رفرف العلم الطلابي الأسود مسقطاً الرئيس الفرنسي شارل ديغول ، وغطت الشعارات الفوضوية جدران المدن الجامعية والشوارع في أوروبا كلها، فإن برودون نفسه أقر في كتابه العدالة في الثورة والكنيسة بأن القانون وحده كاف للحفاظ على النظام والعلم وعلى الحريات.‏

والفوضى في رأيه الناضج في مابعد انحسار العنف ، ليست في غياب النظام أو الغوغائية أو عدم المسؤولية بل في الحالة التي يصلها مجتمع ما متطوراً حتى استغنائه عن أي نظام خارجي مفروض بالقوة .‏

إنها الحالة التي تقدم في مغريات وقتية تظهر فيها الأخلاق مكان السجون والحرية والديمقراطية محل مؤسسات القمع الأخرى الظاهرة ،أليس هذا ما هو حاصل ويحصل اليوم في بلادنا؟ إنها نماذج من الوصاية الدولية المعاصرة تقتفي شعائر الحرية والديمقراطية ورخاء الشعوب لتطبيق هذه المقولة التي أبدع فيها ميكافللي في كتابه الشهير «الأمير » .‏

ألا يتخذ الكلام عن الفوضى المنظمة معناه إلا بمعاينة تلك الأحداث الفوضوية التي تقض مضاجع دول العالم في شوارع مجموعات من المدن والبلدان الواقعة داخل سبحة تضم حباتها فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والأردن وتونس ومصر واليمن وليبيا والمغرب ومابينهما من الدول المتأهبة للفوضى المنظمة إياها التي سبق أن عرفتها المدن الأوروبية وجعلت تنبؤات الفوضويين تستدعي التفكير والكتابة الصريحة، وخصوصاً عندما حذرنا الفوضويون من طغيان الدولة الجديدة كمفهوم وممارسة على أنها تأسيس للحرية أوانتصار لها في وقت قد تظهر فيه أرضاً للإنسان المسحوق المعاصر الذي قد يولد ميتاً قبل أن يجف عرقه وصراخه .‏

 أستاذ الإعلام السياسي في المعهد العالي للدكتوراه لبنان‏

drnassim@hotmail.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية