وأن الرئيس مبارك هو رئيس البلاد والوحيد القادر على قيادة عملية الانتقال، وجاء تصريحها هذا متناقضاً مع ما حدث في مناسبة أخرى، حيث لم ير الرئيس أوباما ضرورة تخلي الرئيس المصري عن منصبه.
كما كان متوقعاً، عكست تصريحات الوزيرة الأميركية المفهوم الجيوسياسي الدائم الذي تتبناه الولايات المتحدة منذ حرب عام 1967 وتوسيع نطاقه بعد اغتيال أنور السادات عام 1981 ووصول نائبه حسني مبارك للسلطة في مصر، وكان السادات أول رئيس عربي اعترف بإسرائيل ووقع معاهدة سلام معها في السادس والعشرين من آذار عام 1979 والتي أصبحت تمثل حجر الزاوية بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل ولمصر أيضاً. وتبددت مشاعر الشك والريبة والاستياء التي كان يشعر بها كل من الرئيس السادات ورئيس وزراء تل أبيب مناحيم بيغن كل تجاه الآخر، نتيجة خمس حروب ومفاوضات سلام طويلة الأمد, وذلك عندما علما كما الرئيس جيمي كارتر أن حليفهم في المنطقة شاه إيران قد أطاحت به الثورة الشعبية الإيرانية ولجأ إلى مصر. وصارت الولايات المتحدة تجسد بالنسبة للجمهورية الإيرانية التي كانت في طور تكونها (الشيطان الأكبر) والعدو اللدود للإسلام.
وفيما هز خبر خلع الشاه مسرح السياسة في منطقة الشرق الأوسط، لم تكن الأخبار الواردة من أمريكا الوسطى ومصدرها عدة حركات بالمفرحة للولايات المتحدة، ففي التاسع عشر من تموز 1979 دخلت الحركة الساندينية إلى العاصمة النيكاراغوية ماناغوا وأنهت حكم الديكتاتور سوموزا، لتنضم بذلك إلى تعقيدات المشهد الجيوسياسي للولايات المتحدة. ومذ ذاك الحين شكلت مصر عامل استقرار للتوازن الهش في منطقة الشرق الأوسط. وعملت الولايات المتحدة من خلال سياستها الخارجية على تعزيز هذا الدور مهما كلف الثمن، مع علمها وغض بصرها عن تجاوزات حكم مبارك. وضمن هذا السياق تبدو النصح التي أسداها الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته لنظام مارس الفساد لعقود طويلة بتمويل أمريكي ينطوي على نفاق لا يطاق. ونسأل هنا: هل كانت ردود أفعال الولايات المتحدة ستكون معتدلة وفاترة كتلك التي أبدتها تجاه الممارسات الحكومية في مصر لو كانت صادرة من نظام هوغو شافيز، مثلاً ؟
وبما أن الرئيس مبارك يبدو أنه قد وصل إلى نقطة اللاعودة، يسعى الرئيس أوباما إلى بناء ما يمكن أن ندعوه نظام (مباركي) لما بعد مبارك، من أجل ضمان استمرارية نظام مؤيد لأمريكا عبر إحلال نظام جديد تحت شكل آخر , أي مثلما ورد على لسان إحدى شخصيات رواية (غيوبارد) غيسيبي توماسي «من أجل أن يبقى كل شيء مثل السابق، ينبغي أن يتغير كل شيء». وفي نيكاراغوا، وقبل انهيار نظام سوموزا، كانت تلك هي الصيغة التي حاولت عبثاً واشنطن استخدامها، من خلال فرض أحد رجالات النظام وهو فرانسيسكو اوركويو، رئيس الكونغرس الوطني، وكانت آخر محاولاتها تقريباً هي دعوة الجبهة الساندينية، التي كانت تسجل انتصاراتها في كل أرجاء البلاد إلى نزع السلاح. وعقب بضعة أيام، انتصرت الثورة الساندينية وأصبحت مقولة (اوركويو الزائل) لقباً جماهيرياً ما زال مستخدماً لغاية الآن.
وحالياً يواصل البيت الأبيض استخدام استراتيجية مماثلة، حيث مارس ضغوطه على الرئيس مبارك من أجل تسمية نائب رئيس له، معرباً عن رغبته عدم تكرار فشله في نيكاراغوا. ومع ذلك تبنى الرئيس مبارك خياراً غير مناسب من خلال تسميته رئيس جهاز استخبارات الجيش عمر سليمان نائباً له وليقود العملية الديمقراطية، وهو المعروف بمعارضته لأي انفتاح ديمقراطي وسجله لا يتوافق وتطلعات الشعب الرامية للديمقراطية، الذي احتل الشوارع موقناً أن الساعة قد حانت لتخلي مبارك عن السلطة.
وحسب التقاليد الاشتراكية الماركسية، نقول: إننا أمام ثورة عندما يعجز أولئك الذين في الأعلى عن السيطرة كما في السابق وأولئك الذين في الأدنى يرفضون أن يكون مسيطراً عليهم كما في السابق أيضاً. وفي الوضع المصري، لا يمكن لمن في الأعلى السيطرة لأن قوات الأمن خسرت معركة الشارع والجيش يتعاطف مع المتظاهرين بدلاً من قمعهم. وليس عجباً إن كشفت لنا أقنية التسريبات، مثل ويكيليكس عن حجم الضغوط التي مارسها البيت الأبيض لكي يغادر الرئيس مبارك السلطة لكي لا تتكرر مأساة طهران. والأفق المفتوحة أمام واشنطن نادرة وسيئة. وأياً كانت الفرضيات لن تكون الأمور كالسابق واحتمال مجيء نظام جديد يبقى مخلصاً دون قيد أو شرط لواشنطن يبقى ضعيفاً للغاية.
كما أن تأثير الأزمة على حلفاء واشنطن وإسرائيل ستكون أشبه بأحجار الدومينو، والتي ستفاقم من الفشل العسكري في العراق وأفغانستان.
بقلم: اتيليو بورون
كاتب اسباني