تلك التجربة المميزة التي تحاول منذ خطواتها الأولى إشغال مساحة خاصة بها.. قوامها طرح أسئلة لا تبحث عن إجابات جاهزة، ولا تنتظر الحصول على سعادة قريبة، ورغم ذلك تسعى للوصول إلى حلم كبير قد يكون أبعد مما يحتمل الشاعر نفسه، وذلك دون الخروج عن موسيقا قصيدة فيها الكثير من هدوء الحزن وأنفاسه.
* هل كنتَ متأكداً من الفوز..؟ أم كان خبر حصولك على الجائزة مفاجأة غير متوقعة؟.
** لم أكن متأكداً ولا متوقعاً حتى، لا لأنني غير واثق من شعري، لكن من عادتي الشك والخوف والقلق.
* أنت شاعر من ثلاثة شعراء شباب انتزعوا المراكز الأولى في مسابقة كويتية على مستوى الوطن العربي، وهذا شيء لافت. كيف ترى الأمر؟
** الشعراء السوريون الشباب يحصدون هذه الجائزة في مراكزها الثلاثة أو أحدها منذ سنوات طويلة، وأتمنى أن يتنبه النقاد لهذا الأمر ويحللوه، جائزة سعاد الصباح حافظت على معاييرها وجديتها وأمانتها منذ إنشائها حتى الآن، ونَيلي للجائزة مع الشعراء السوريين هذا العام يفرحني ويشرفني بالتأكيد.
* كيف تجد المشهد الشعري الشاب في سورية؟.
** المشهد غني، وهناك شعراء كثيرون يجربون ويتفاعلون مع بعضهم، لكن ثمة أمراً لا بد برأيي أن نفهمه، وهو استيعاب التجارب الشعرية كلها، وعدم تقييد الجَمال في إطار واحد، لأن الشعر الذي لايتجدد ويتغير يموت، إذاً لا بد أن نطور ذائقتنا بشكل دائم وأن نستوعب الآخر، فعندما تناحرت أجيال الرواد بقصد التأسيس للقصيدة الحديثة كان تناحرها صحياً، أما اليوم فقد جاء دور التلاحم والاندماج والإبداع الجماعي، والوقت ملائم بسبب الانفتاح الهائل الذي نعيشه، التنظير برأيي لا يستحق في هذا الزمن العناء، بل القصيدة وحدها تستحقه، فهي ستبقى وحدها في النهاية، تبقى للقارئ الأول والأهم: الشاعر، يعود إليها كلما أحس بلا جدوى الأشياء من حوله.
* برأيك.. هل الأدباء الشباب يعانون من غبن المؤسسات الأدبية، وعدم اهتمام الأجيال السابقة بهم؟.
** على صعيد المؤسسات الرسمية يعانون من بعض الأسماء التي لم تزل تضع الحواجز في وجوههم، لكن اليوم يستطيع الشباب أن ينشروا ويسوقوا شعرهم بأنفسهم، كما يستطيعون التواصل والاطلاع على تجارب من سبقهم بسهولة كبيرة، الشعر اليوم لاينحصر تسويقه في بقعة دون أخرى، يستطيع الشاعر أن يتطور ويتابع المشهد ويندمج فيه دون أن يخرج من غرفته، هذا الزمن ليس زمن الإمبراطوريات الشعرية، اليوم الجميعُ يكتب، والجميع ينشر، والشاعر ليس مضطراً إلى انتزاع اعتراف الآخرين، وأنا سعيد جداً لأنني ابن هذا العصر الذي يتيح لي التواصل والاطلاع على كافة التجارب الشعرية في كل الأرض بكل يُسر!، أما على صعيد التواصل الشخصي مع الشعراء الكبار فلم أجد شاعراً صدّني وأنا أعرض عليه تجربتي المتواضعة، بل على العكس، الجميع اهتم بها واستفدت من تجربته.
* لننتقل إلى الحديث عن مجموعتك الشعرية الفائزة وأهم سماتها؟.
** أدَّعي أن الكتاب ديوان وليس مجموعة، والفرق أن الديوان ترتبط نصوصه بخيط واحد، هاجس واحد، كتبتُ هذا الديوان خلال ثلاث سنوات، ويمثل مرحلة عشتُها، هذا لا يعني أن المرحلة أملَت عليَّ القصائد، لأن المرحلة تُحييها وتُكمل بعض تفاصيلها ذاكرات كثيرة، وثمة شيء أود إيصاله من خلال هذا الديوان، ثمة فكرة لن أتحدث عنها، بل أتركها للقارئ.
* طبعت مجموعتك الأولى (ترانيم الفصول) عام 2006 وأنتَ طالب جامعي، هل كان هذا في صالحك؟ أم تسرعت في خوض تلك التجربة؟.
** تسرعتُ كثيراً، فقد كانت طباعة المجموعة وأنا خارج للتو من مرحلتي الثانوية أمراً في غاية العجلة, ولا يمثل صوتي الشعري أبداً، لكنني لستُ نادماً بعد الآن، لأن هذه المجموعة جعلت نصي يتطور أكثر، فقد نسيتُ قصائدها ولم أعد أفكر فيها، أضف إلى ذلك أنني عندما قدمتُ المجموعة إلى الشعراء والنقاد تناولوها بجدية أكبر مما لو أنني قدمتها على شكل قصائد متفرقة.
* لديك اهتمام بالتفاصيل الصغيرة، كأنك تقدم حكاية تثير أسئلة فيها شيء من الإرباك دون العثور على أجوبة يقينية، هل دور القصيدة حقاً أن يكتفي بطرح الأسئلة؟.
** نمر بأوقات طويلة من الوحدة والشعور بالعدم، خلال هذه الأوقات تواجهنا أسئلة لا حصر لها على الصعيدين الذاتي والوجودي، أسئلة تتعلق بأشياء ترحل دون أن نستطيع تفسيرها، وأمام هذه الحيرة اندفعتُ إلى التفاصيل الصغيرة كمحاولة لاسترداد طفولة غائبة ربما، هذه التفاصيل الصغيرة الإنسانية المفقودة تدفعك إلى التمسك بالحياة أمام عدم فهم الأشياء الكبيرة، ثم إن المعادلة هكذا: القصيدة تأتي من لحظة إرباك تسيطر على الشاعر، فيكتب ليقول للعالَم: أنتَ تربكني، وهأنذا أربكك بواسطة اللغة، هكذا يدخل ويُدخل معه القارئَ في معترك البحث عن الجواب، وما من جواب، بل اتساع للسؤال، لأن الجواب إذا وُجد انتهت الدهشة، لذلك يَخرج الشعر عن تابوهات الدين والسياسة والجنس ويعيش فضاء أزرق دون طريق ولا غاية ولا أجوبة، الشعر لا يقدم جواباً بل جمالاً، لذلك نهرب إليه، حتى لو ادعى الشعر الإجابة فهذا نوع من كذب خياليٍّ مشروع أمام الحقيقة الصعبة.
* ضمن ذاتيتك المغلفة بشفافية ذات طبيعة مرهفة تخاطب أنثى تبدو كحلم أكثر من امرأة بذاتها، هل تبحث عن امرأة لم تصل إليها بعد؟.
** ربما تهزأ مني لو قلتُ لك إنني كنت في الحادية عشرة عندما عشقت لأول مرة، وفي سنوات الجامعة تعلقت بعشرات الفتيات، لكنني لم أصل، ربما يكون الحرمان من المرأة في سنوات الطفولة الأولى هو السبب الذي يدفع بي إلى البحث عنها كحلمٍ غير موجود، وربما أكون مراهقاً لم ينضج بعد، أو أنني صوفي بالنسبة إلى المرأة: البحث عن الوصول أجمل من الوصول، مع أنني أتمنى الوصول، أمر آخر، هو المرأة!، أنا لا أستطيع أن أفهم المرأة عندما لا تُبكيني ببعدها ونزقها كما تبكيني بعذوبتها ورقتها!، عذوبة المرأة في أعمق حالاتها بالنسبة إلي عذاب خفي لا يوصف، كيف أفسر ذلك؟، المرأة!، كيف سأتحدث عنها؟، بقوتها وضعفها وبكل حالاتها تحمل كل احتمالات الدهشة، أما الرجل فلا يعيش إلا مستغيثاً بألوهة المرأة، لا أستطيع أن أضيف أكثر.
* أكثر الشعراء الشباب يلجؤون إلى قصيدة النثر، لكنك انحزت إلى كتابة التفعيلة. برأيك لم تنضج قصيدة النثر حتى الآن؟
** أبداً، وأقول لشعراء النثر: قصيدة التفعيلة تختلف عن النثر بأنها تعتمد على تكرار تفعيلة مأخوذة من بحور الخليل، أليس كذلك؟، حسناً، من قال إن هذا الأمر يُخرجها من الحداثة ومن استيعاب العصر؟، وأقول لشعراء التفعيلة: ما الشيء الجمالي- سوى الوزن الذي لا يُعد أمراً أساسياً أمام باقي مقومات قصيدة التفعيلة- لم تقدمه قصيدة النثر؟، على كل حال، قدم الشعراء السوريون في التسعينيات انقلاباً في قصيدة النثر التي استوعبت مقومات الحداثة وطورت اللغة، كما عكست تفاصيل العصر بكل جدارة، شكلت هذا الجيلَ أسماء كثيرة، لكن هذا الجيل لم يأخذ حقه من النقد بعد، وإلى اليوم ينشأ شعراء شباب يقدمون تجاربهم من خلال قصيدة النثر ويطورونها، ما يميز هؤلاء عدم النمطية والتكرار والدوران حول بركة واحدة، هذا الدوران نجده عند أكثر مَن يكتبون قصيدة التفعيلة اليوم، ومع أن هذه البركة جميلة إلا أنها راكدة لا تتجدد-وليس لقصيدة التفعيلة ذنب في ذلك-، وبالنسبة إلي أجدني في الإيقاع المرتبط بالانفعال والنبرة التي تمنحني إياها هذه القصيدة، أنا أكتب قصيدة النثر أيضاً، لكن -ولأن قصيدة التفعيلة تعاني من النمطية كما أسلفت-، فأنا أحاول أن أجد صوتي الخاص من خلالها، عبر كتابتها بطريقة مختلفة، قد لاأصل إلى ذلك، لكنني به أصل إلى جمال المحاولة..هذا يكفيني.