كما أن الحديث عن فنان وناقد فني ومؤرخ للفنون والعمارة وخبير في الآثار والمتاحف مثل الدكتور /عفيف بهنسي هو حديث عن شخصية دمشقية عريقة بامتياز وعروبية اتخذت من أصالة الانتماء للمكان وأبعاده الجغرافية ومعالمه في الهوية وطروحاتها منهجاً تميز بصدق المنتمي وأصالة عطائه.
هو أستاذي في مادة تاريخ الفن والعمارة بكلية الفنون الجميلة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي في فترة تعاظم فيها المد القومي العربي، وحلم الوحدة فكانت محاضراته موشحة بأنفاس تلك الفترة المنبعثة من عمق التاريخ ودلالاته ومساهماته في نشأة وتطور الفن الأوروبي، وأذكر أنه في أحدى المحاضرات قدم بعض الأدلة التي يعتقد أنها تثبت الأصول العربية لبعض الفنانين والاتجاهات الفنية الأوروبية... كما كانت أحاديثه ومقالاته، وبعض إصداراته تشي بميوله القومية وسعيه لبلورة هوية قومية لفنوننا التشكيلية.
فقد كتب دراسة مطولة عن الفن في خدمة المعركة وتقدم بها إلى المهرجان العربي الأول للفن القومي التشكيلي الذي عقد في دمشق ما بين 23 28 /11/1972 نذكر بعض ما جاء فيها على سبيل المثال: لعب الفن التشكيلي العربي دوراً هاماً في معركة مجابهة العدوان وفي الصمود والتعبئة وتجمعت أعمال الفنانين في القطر العربي السوري في المعارض التي أقيمت تحت هذه الشعارات منذ عام 1966 معبرة عن موقف الفنانين التشكيليين إزاء الأحداث، وعن ارتباطهم القومي الصادق.. وجاء في فقرة أخرى: ولهذا فإن الحديث عن هذه المرحلة من تاريخ الفن العربي يعني الحديث عن بداية بناء الشخصية العربية الفنية المتحررة من جميع التيارات الغربية والمستمدة من مفهوم الفن العربي الأصيل... الخ.
وفي إصداراته العديدة مثل: أثر العرب في الفن الحديث، الفن والثورة، الأسس النظرية للفن العربي، والفن الحديث في البلاد العربية يبرز هذا الاتجاه عند الدكتور / عفيف بهنسي ضمن رؤية تجمعت فيها كل المعطيات السيكولوجية والتاريخية والجغرافية التي تجعل من توجهاته القومية لها ما يبررها ويؤكدها.
إن مجلد الفن الحديث في البلاد العربية الصادر عن دار الجنوب للنشر اليونسكو عام 1980 والذي يقول في مقدمته قبل انتقاله إلى الفصل الأول الذي يحمل عنوان / شخصية الفن العربي / ما معناه وباختصار /: إن مؤلفه هذا هو استجابة لسؤال يتردد كثيراً عن ملامح الوجود الحضاري العربي وعلاقة الفنون التشكيلية به والاطلاع على مراحل الحركة الفنية العربية ونشاطات الفنانين العرب، وأعتقد أن المؤلف واستجابته لثقافة الفكر القومي العربي المتجدد في سورية والرغبة في أن تتحول هذه الثقافة في الوطن العربي إلى ما يماثلها في سورية استناداً إلى العديد من الحقائق... فقد جهد نفسه في تقديم كل ما يؤكد ذلك ويدعمه سواء اتفق البعض معه أو لم يتفق، لكن المؤكد أن الدكتور /عفيف / صادق مع نفسه وبالصورة التي عاش لها وعرف بها واهتمامه بالآثار تأكيد على ذلك.
وبخلاف علاقة الطالب بأستاذه كانت تربطني به علاقة محبة واحترام وتقدير فقد كان مرشداً لي ومشجعاً لكل النشاطات الطلابية عندما كنت رئيسا لفرع اتحاد الطلبة في كلية الفنون الجميلة... وعندما وصلت لمسامعه رغبتي في المطالبة بإحداث مركز للفنون التشكيلية في السويداء كان أول من ساعد في ذلك، بل كثيراً ما سمعته يشيد بهذا التوجه ويزكيه، وأذكر أنني قدمت أكثر من دراسة لوزارة الثقافة حول ضرورة إحداث هذا المركز كانت واحدة منها في السويداء ودرعا، مبيناً الأسباب والدواعي والمقومات والنتائج التي يمكن أن تبرر الإحداث خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين السويداء ودرعا.
وعندما عاودت المحاولة للسويداء فقط هذه المرة بتوجيه من الوزارة وبطلب جديد إلى وزير الثقافة الأستاذ /سهيل الغزي عن طريق رئيس المركز الثقافي الأستاذ /ميخائيل أبو عقدة / ومحافظ السويداء، كانت شهادة الدكتور /عفيف بهنسي ودعمه بل تزكيته لهذا المركز أمام السيد الوزير عندما استدعيت لمقابلته، وفيها تمت الموافقة والتي ساهم فيها إضافة للدكتور عفيف الفنان والأستاذ / نعيم إسماعيل الذي أصبح مديراً للفنون الجميلة فيما بعد.
و في أول معرض رسمي لي عشية تخرجي من كلية الفنون الجميلة عام 1969 كان الدكتور عفيف بهنسي من أوائل الذين جاؤوا مبكرين ومهنئين في حفل افتتاح المعرض وبسمة فرح الأستاذ بطالبه لا تفارقه.كتب عن أعمالي بحبية خاصة وصلت إلى جغرافية المكان وقيمة الموجود فيه من المتروكات الحضارية والبازلت والعادات والمواقف برؤية باحث عاشق لمؤلفات الوطن والمواطن، فكان بحق أحد المدافعين باعتزاز عن الموجود لدينا وأهمية تنهيضه.
وفي معرض لي بصالة عشتار عام / 2000 / كان لكلمته النقدية التي حملتها صفحات الدليل إلى جانب كلمات أخرى أثر طيب في نفسي فيها بدا لي أنه متابع جيد للشباب التشكيلي في القطر وحريص على مسيرتهم، ومما قاله في هذا المعرض: رأيت نفسي على موعد مع باقة من الأعمال التي لم تخرج عن أسلوبه الذي عرفته منذ بداية تكونه الفني ولكنها تتمتع بحميمية أكثر وضوحاً بالبيئة التي يعيشها الفنان البيئة الاجتماعية والبيئة الطبيعية... وبألوان حارة بدفء الإيمان صور الفنان جمال انطباعاته عن بيئته من خلال أشكال مستترة موزعة على صفحات الحجر البازلتي والطين الأحمر وأوراق الشجر الخضراء، واستطاع الكشف عن مضمونها بصيغ بين الدخول إلى الواقع أو الخروج من الحلم.
أطال الله في عمر الدكتور /عفيف بهنسي / فقد نذر نفسه للعطاء بسخاء، وكان بحق أحد فرسان التبشير بجماليات التشكيل ومكانته التأثيرية في صنع التقدم والنهوض منذ بدايته كفنان تشكيلي مصور إلى الكتابة والبحث والدراسة في تاريخ وتأريخ الفنون والعمارة والآثار مساهماً أساسياً في توسيع وتفعيل دائرة الثقافة البصرية وانعكاساتها على التذوق والحس الجماليين.
حديث مع الدكتور عفيف بهنسي في سبعينات القرن الماضي.