وإن كنا قد اعتدنا على ذكر هذه النهضة مقترنة بمنطقتي فلورانس وروما فهذا لا ينسينا ظهورها في البندقية أيضاً. فمنذ بداية القرن الخامس عشر دفع جانتيل دافابريانو مدرسة البندقية إلى خلق توليفة فريدة من الفن وظهر تمّيزها بوضوح من خلال التنوع في خلفية اللوحة، وإحياء الفنون القديمة المتعلقة بمدينة البندقية المشبعة بالروحانية المسيحية باعتبارها كانت أقل تأثراً بالفنون القديمة التي امتاز بها أهالي فلورانس وروما.
الاختلاف في إنشاء اللوحة: وفيما أولى فنانو فلورانس اهتمامهم للرسم نرى أن رسامي البندقية تخصصوا باللون والإضاءة، ولم تكن هذه التوجهات بمحض الصدفة فقد تميّزت أعمال مدينة (دوج) بالتقليد والفن البيزنطي بشكل واسع، ولفهم هذا اللون من الفن يكفي النظر إلى لوحة بالادورو (التي تعود إلى القرن الثاني عشر) المعلقة في كاتدرائية القديس مرقس حيث يتشعب فيها الموزاييك وتتدرّج الألوان بشكل مفاجئ ومحيّر، بالإضافة إلى أنها محاطة بالذهب.
وإن ما يكسب الفن البندقي خصوصيته هو عشق اللون والإضاءة والتلاعب بهما، وأكبر شاهد على ذلك هو الآثار الفنية ل بيلليني وجيورجيون إذ نلاحظ في اعمالهما شدة السحر اللوني المستخدم في رؤية تجسّدية حسية. لكن إن كان يعرف جمّاع الآثار الفنية هذه الأسماء، إلاّ أن هذه ليست حالة جيوفاني باتيستا سيمادا كونغليانو الذي خصّه متحف لوكسمبورغ بمعرض مميّز.
ولا بد هنا أن نذكر أن حياة هذا الفنان محاطة بالغموض فنحن لانعرف الكثير عن السنوات الثلاثين الأولى من حياته سوى أنه ولد عام 1459 وتوفي عام 1517، ويعود أصله إلى مدينة صغيرة في البندقية. كونغليانو ابن وحفيد لنسّاجين (واسم «سيما» أتى من كلمة سيماتور جزّاز الأقمشة الصوفية وتشير إلى المهنة التي مارسها والده وجده). أول تاريخ مميز في حياة الفنان هو رسمه لوحة للقديسة العذراء مع الطفل يسوع بين القديس جيروم والقديس يعقوب التي رسمها لكنيسة سان برتولوميو وتعود لعام 1489.
ما نزال لا نعرف شيئاً حول نشأته، تدرجه ولا عن معلّميه الأوائل، لا شيء عن أصل عمله وما أوصله ليصبح أشهر فناني عصره، لا شيء سوى تأثره ب بيلليني وعبقريته. فمن أولى أعماله نستطيع أن نلمس عبقرية فذَة، ففي لوحة القديسة العذراء و الطفل تبدو تركيبة المساحة كقطعة معمارية مأخوذة بمنظور رائع حيث استطاع سيما أن يمنحها الحيوية بإضاءة خيالية تسبح فيها الوجوه المقدسة. وهذه الوجوه التي نراها على بعد متساوٍ من المذهب الطبيعي الدنيوي و الجمودية الغوطية تعبّر بدقة واعتدال عن الفرح والألم النفسي السابق للآدمية. وتعتبر هذه القدرة في منح مواضيعه سمات وآثار حميمية الروح احد وجوه عبقرية (سيما). فبهذا التقديم يظهر إخلاصه لإحياء الفن البندقي القديم ولدرس بيلليني، وبإخلاصه هذا يعود إلى عقيدة معاشة بشفافية حميمية وعميقة شبيهة بتلك المتعلقة بالعصور السابقة، ونلاحظ بروز هذا الإيمان في أغلب أعماله المسماة أعمال التقوى لاسيما لوحة العذراء تحمل الطفل ومحاطة بالقديسين ميشيل أرشانج واندراوس الرسول، كذلك في لوحة السيد المسيح المتوج بإكليل الشوك. وأول ما يلفت نظرنا الإضاءة التي تملأ اللوحة، لكن نلاحظ أيضاً تمكنه من استخدام الألوان الحارة والعميقة وكذلك الباردة المشعة المشبعة دائماً. وتتجاوب الألوان عند سيما من الأزرق السماوي اللازوردي والأحمر القرمزي المتوازن
من خلال سلّم الألوان المعقد إلى الأصفر البرتقالي الذي يسعى نحو الكمال، نور، ألوان، إحساس، حميمية: كل عبقرية النهضة البندقية يعبر عنها في فنه هذا.
في بداية القرن السادس عشر وصل سيما إلى قمة مجده، فلوحة العذراء مع الطفل فتنت كل البندقية من خلال الورع الذي نستشفه والعذوبة الحزينة التي تعبر عنها. فلقد اعتبر كمعلم رسم الورع في كل البندقية.. والسبب الذي أدى تناسيه النسبي. أن الرسوم الإيمائية تعتبر في الواقع دعوة للدخول في علاقة حميمية مع الله وإلى إيمان مُعاش، وهي تفرض على المشاهد قبولاً معقولاً للموضوع.
وهكذا يمكننا الاعتراف بعبقرية سيما في الرسم من خلال الدقة والتفنن في لوحاته وتمكنه العمل بالألوان الزيتية وتقنية الألوان الملمعة المثيرة للإعجاب، وكذلك تأثيره على معاصريه. وبهذا فإن المعرض الذي يقدم أعماله حالياً ما هو إلا فرصة لإعادة اكتشاف «معلم النهضة في البندقية».