الرئيس كلينتون ظن أنه سيرضي( إسرائيل ) من خلال تفرغه شبه الكامل لإقامة السلام في الشرق الأوسط وقد عمل المحال لإجبار الجانب العربي للتخلي عن القدس , والاكتفاء بسلطة رمزية على بضعة أمتار حول الحرم , وبالتخلي عن حق العودة للفلسطينيين , مع عروض دولية لتوطين اللاجئين في تخوم القارات الخمس وبغض الطرف عن المستوطنات التي أصبحت مدناً , مع الاكتفاء بتفكيك بضع مستوطنات من تلك التي لايزيد عدد المستوطنين فيها على عشرات , والكوارث التي حدثت في السنوات الثلاث الماضية تندرج الى حد ما في فئة التركة التي خلفها ( كلينتون ) ولو أنه ( نجح ) فلربما لم يكن ممكنا لأرئيل شارون ان يكون رئيسا لوزراء ( إسرائيل ) ولربما استعادت سورية مرتفعات الجولان, ولربما صارت ( إسرائيل تشعر بالأمن , ولربما أيضا دخلت المنطقة في حقبة من السلام والازدهار وليس هناك شك في أن فرصة كبرى قد فاتت أثناء فترة رئاسة كلينتون وهي فرصة ضائعة يدفع العالم ثمنها الآن.
ومن الجائز القول إن الولايات المتحدة لو نجحت في لعب دور الوساطة للتوصل الى تسوية دائمة وعادلة ومحاولة بين العرب والاسرائيليين في الفترة 1999 - 2000 وهي تسوية كانت في المتناول عندئذ لكان من الممكن ان تختلف اوضاع المنطقة والعالم مما هي عليه الآن بكثير ,كتاب السيرة الذاتية للرئيس ( كلينتون ) صدر تحت عنوان ( حياتي ) وأصبح من أفضل الكتب مبيعا على النطاق الدولي , وهو يقع في 1000 صفحة , تقاضى كلينتون مقابلها مبلغ 12 مليون دولار ويحمل الكتاب بعض المفاتيح لفهم أسباب اخفاقه في الشرق الأوسط.
كان ( كلينتون ) يؤمن أنه مضطر الى التفاوض والاقناع والتوفيق والمصالحة وليس الى اتخاذ القرارات الحازمة والعنيفة التي من الممكن ان تسيء الى شعبيته كثيراً , ففي تعاملاته مع القادة الاسرائيليين على وجه الخصوص كان من الواضح انه لايتمتع بمقدار كاف من الحزم وقد ظهر في كتابه هذا انحيازه الى ( إسرائيل ) ضد العرب , ولابد من القول هنا إن هذا الانحياز خصلة مشتركة بين الرؤساء الأميركيين كلهم تقريباً .
وقد تم اهمال ياسر عرفات واعتباره زعيماً ثوريا فلسطينياً وعلى النقيض من ذلك يحظى ( اسحق رابين ) بالاحترام كرجل صاحب رؤية ويعترف كلينتون أن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان صادقاً في رغبته لصنع السلام , وأنه كان مستعداً لأن يكون ( مرنا وإيجابياً ) في المفاوضات مع ( إسرائيل ) وفي الحقيقة ان كلينتون اعتنق الرأي الاسرائيلي القائل ان أي شخص يعارض احتلال ( إسرائيل ) للأرض العربية هو شخص ( إرهابي ) حين جاء نتنياهو في أيار 1996 مملوءاً بالغرور والغطرسة أعلن أنه يرفض مبدأ مدريد ( الأرض مقابل السلام) على رغم أنه كان الناطق الرسمي لوفد اسرائيل في مؤتمر مدريد وقد طرح الأمن مقابل السلام وكان مستشاروه ( وهم مجموعة من الصهاينة المتطرفين الذين انتقل بعضهم الى وزارة الدفاع الأميركية في عهد بوش الابن ) يريدون نسف عملية السلام كلها ,واجبار العرب على استسلام كامل دون استعادة شيء من حقوقهم وكان الرئيس كلينتون بصدد اصدار اقتراح بانسحاب ( إسرائيل ) من الضفة ومتابعة أوسلو حين فاجأه نتنياهو بالرفض ولكي يريه من الأقوى في الولايات المتحدة رئيسها أم رئيس وزراء إسرائيل ) استعرض نتنياهو مكانته في الكونغرس وفي لجنة ( ايباك ) وسط تصفيق غير مسبوق وهدد بإحراق واشنطن , وتم تنفيذ الحريق بفستان مونيكا الأزرق وبمحاسبة هيلاري على كلمات قالتها قبل سنين شتمت فيها يهودياً .
وجاء باراك , وأرسل وسطاء لدعوة سورية الى العودة الى المفاوضات , وعادت في مطلع عام 2000 في شبيرزتاون ولكن باراك أنكر تعهد رابين بانسحاب كامل من الجولان ثم اعترف ,وكان كلينتون قد خشي على نفسه من الصهيونية فجدد ولاءه لإسرائيل , وأكد التزام أميركا بكل ماتطلبه , ولهذا فإنه لم يستخدم نفوذه وموقعه كحكم وراع لعملية السلام وبعيدا عن الموافقة على الانسحاب الى ضفة بحيرة طبرية على الحدود السورية .
أراد باراك أن يوسع حدود ( إسرائيل ) لمسافة مئات الأمتار نحو الشرق لضم الطريق الملتف حول البحيرة وقام ( كلينتون ) على نحو متهور بالموافقة على هذا المطلب بدلا من مناقشته وتفنيده , وبارتكابه هذا الخطأ , تصرف ( كلينتون ) كمراسل لا أكثر يعمل لدى ( إسرائيل ) وليس كرئيس أميركي , وقد حكم هذا الخطأ بالاخفاق على آخر اجتماع عقده ( كلينتون ) مع الرئيس الراحل حافظ الأسد في جنيف آذار عام 2000 , فأدى ذلك الاخفاق الى إرجاع قضية السلام في المنطقة كلها الى حيث بدأت .
والمثير أن كل عوائد السياسة الاميركية تصب في الحضن الإسرائيلي ولم تكن مصادفة ان رئيس الحكومة الاسرائيلية هدد بإحراق البيت الأبيض قبل تفجر فضيحة مونيكا بأيام , وفرض على كلينتون الذي تحول الى ( بطة مشلولة ) تغييراً في جدول الأولويات , وإذا كان نتنياهو وحكومته قد حاذروا الحديث عن الفضيحة لانها ( موضوع يخص الرئيس ) كما قال , فان زعيم اليمين اليهودي المتطرف على الساحة الاميركية ( غانشرو ) اختصر الحالة الاسرائيلية ازاء وقيعة كلينتون وقال : ( إن إلهنا يعاقب كل من يحاول تهديد اسرائيل أو ابتزازها , إن مونيكا تمثل البطلة العصرية للملكة ( استير ) التي انقذت الشعب اليهودي من مصير مظلم بسبب زوجها الملك الفارسي احشو برش .
وفي اطار منطق غلاة الصهيونية يعني هذا الكلام ان فضيحة مونيكا عطلت قرار الضغط على نتنياهو للانسحاب من الضفة كما عطلت استير ابادة الشعب اليهودي في مملكة زوجها التي كانت مقررة في 13 آذار في روزنامة ذلك الزمان ولذلك يحتفل اليهود بعيد ( البوريم ) الذي يعني الخلاص من الابادة , من هنا ( الملكة استير ) رمز المعركة الليكودية المنتصرة على كلينتون الذي طلب الانسحاب حسب الاتفاقات فصور غلاة الصهيونية ذلك وكأنه خطة تجريد اليهود من وطنهم القومي وأرض ميعادهم , ودخل الكونغرس على خط الانتصار الذي صنعته ( استير ) الأميركية مجسدة بمونيكا لوينسكي اليهودية , وتبرع نائب الرئيس آل غور في ايصال الرسالة ومفادها أن البيت الأبيض في عهده لم يضغط على ( إسرائيل ) للقيام بأي عمل لاتريده وفهم الليكوديون ان قضية الشرق الأوسط لن تكون على جدول الرئيس القادم للولايات المتحدة الأميركية .