حيث ( الغراند بلازا ) الاسطورة المنحوتة في الصخر , قصور ذات ابراج اكثر روعة من الخيال اصطفت دائريا وشكلت فيما بينها ساحة واسعة مرصوفة بالحجر الاسود البازلتي وقد تفرعت منها واليها أزقة وحواري ضيقة مرصوفة هي الاخرى بالحجر ذاته , تحرض ذاكرة الزائر السوري فورا على استحضار ازقة وحواري باب توما والقيمرية , والتي شهدت فشلا ذريعا ومتكررا في اعادة رصفها بالحجر البازلتي الاسود ذاته , وعلى التساؤل حول ما اذا كان اوفر واقل كلفة وهدرا لو اننا استجلبنا الخبراء البلجيك واستضفناهم في فنادق النجوم الخمس كي يرصفوا لنا ازقتنا وحوارينا كما فعلوا في بلادهم , بدلا من الاموال الطائلة والجهود الكبيرة التي هدرتها محافظة دمشق طيلة عقود في محاولات الرصف الفاشلة ?
اعداد كبيرة من السياح والاجانب تؤم ساحة ( الغراند بلازا ) منذ الصباح الباكر وطيلة ساعات الليل , ولم اعرف سر احتشادهم المكثف خلال ساعات المساء خاصة الا عندما عاودت زيارة المنطقة مساء وفاجأني العرض الضوئي الصوتي الرائع الذي يجري مرة كل ساعتين في الساحة وفي القصور المصطفة حولها , اذ وبانسجام ومطابقة مابين الموسيقا والضوء , يجري عرض رائع على واجهات القصور وشرفاتها المطلة على الساحة , ومن خلال التلاعب بالاضواء والوانها وبمصاحبة الموسيقا يعيدك العرض لدقائق معدودات الى اجواء القرون الوسطى التي شكلت خلالها هذه القصور قلب بروكسل وطابعها العام .
بعد عرضين متتاليين آسرين , شهدتهما في تلك الساحة الرائعة , قفزت الى موضع الذاكرة مني صور اوابدنا التاريخية الرائعة من قصور وقلاع وحصون هي اقدم واعرق مالدى البلجيك ومايفاخرون به , تتناثر في كل جنبات سورية وارجائها , وكيف انها تتنفس الصعداء كل صباح يأتي فيزيل بضوئه عن حجارتها العتمة والخواء , ويبدد الوحشة والاهمال اللذين يلفانها دون اية اضاءة او لمسة عصر , وكيف اننا نبدد ثروة لاتنضب في دهاليز الإهمال واللامبالاة , وبين خطاب سياحي تعبوي يجلدنا بأوهام المنجزات واعداد السياح الخلبية بين الحين والآخر !
ماذا لوقدمنا على مسرح بصرى او ابراج قلعة الحصن او الشارع الرئيسي لتدمر القديمة او غيرها عروضا يومية او حتى اسبوعية مشابهة لعرض الغراند بلازا في بروكسل , ولماذا يؤم مدينة واحدة مثل استنبول مثلا من السياح والزوار في يوم واحد مايصل الى سورية كلها منهم خلال عام وربما اكثر ?
أليس التاريخ واطلاله مرتعا خصبا لتنمية الشراكة الحضارية والثقافية بين الشعوب وبين البلدان كما بين سورية واوروبا ,لماذا اذا نقول ولانفعل ??
لعلني اتوقف هنا لاتذكر ان الحس الجمالي ليس موهبة الا بقدر قليل , وليس تعليما وتلقينا الا بالقدر ذاته , لكنه بالتأكيد , ناتج حضاري , واذا كان عقد الشراكة بين سورية واوروبا , حضاري بمعنى ما , فإنه بالمطلق لابد ان يشتمل على عقد بالشراكة في الحس الجمالي ذاته , الحس الذي يوحد النظر الى الاشياء !!
عند الظهيرة من ذلك اليوم كنت قد بلغت احد اطراف المدينة الهادئة ووقفت امام مدخل كبير خال ومشجر , ليس له باب يوصد , ولاتتزاحم امامه الاكشاك ولا الباعة واصحاب البسطات وكوكبات المراهقين اللاهين , كان ذلك مدخلاً الى حديقة عامة , لم البث حتى دخلتها ورحت اتجول بين اطرافها المترامية المليئة بالبحيرات والغابات الصغيرة المساحة والامتداد , كانت هادئة تماما ) كأنها حديقة ) رغم كثرة مرتاديها , لكن الملفت في هذه الحديقة , خلوها تماما من أي نوع من الاسيجة والحواجز او الاسلاك الشائكة التي تغص بها حدائقنا العامة على ندرتها , والتي حار المسؤولون عنها في طريقة منع الزوار من العبث بمروجها واشجارها , فأقدموا على تسييجها وتعلية السياج , أي اعتقال زوار الحديقة داخل الممرات الرملية , ورغم ذلك يقفز الكثيرون الى داخلها من فوق السياج او من تحته باحداث ثغرة فيه .
لا ألوم احدا , لكنني احاول تبيان الفارق بين رؤيتنا لدور الحديقة وشروطها ووظيفتها , وبين رؤيتهم هم لها , الفارق بين عقل ينزع الى التحرر حتى من الاشكال الوهمية للجدران , وبين عقل آخر لايجد بدا من الجدران حتى حين يصطنع لنفسه فسحات متواضعة من الحرية , واتساءل : كيف للعقل ان يدرك الحرية وشروطها .. أمن الحاجة اليها ام من نماذجها المصكوكة امامه ?
غادرت الحديقة الى شارع خفي ينحدر نزولا نحو المركز الرئيسي لخطوط المواصلات المتعددة , الميترو والترام والباصات والتكسي , والتي تذهب في كل اتجاهات المدينة وقد صادف ذلك موعد انتهاء يوم العمل وعودة العاملين الى منازلهم , لكنني لم اسمع بوق سيارة واحد , ولم اشهد تجاوزا واحدا لنظام او اشارة ضوئية في المدينة التي تعج بالاشارات الضوئية والصوتية .
اقول الصوتية , لأنني ترددت غير مرة في تفسير ذلك الصوت الذي يشبه الخنين , والذي ينطلق من مكان ما على عمود الشارات المرورية , كلما اضاءت شارة المشاة الخضراء , الى ان رأيت المشهد بأم عيني حين وقف رجل ضرير الى جانبي عند حافة الرصيف منتظرا عبور الشارع , فما ان اضاءت الشارة الخضراء والخنين اياه يرافقها حتى انطلق الضرير الى عبور الشارع كما لو انه يرى الشارات والوانها ودون ان يحتاج مساعدة او سؤال .
تذكرت حينذاك التنظيرات واكوام الثرثرة والكلام المعسول التي نهدرها في ورشات العمل والندوات والمؤتمرات والمحاضرات , والتي تتحدث عن ذوي الاحتياجات الخاصة عندنا , وتذكرت كذلك الكم المتواضع وغير المرئي من العمل الجاد والمسؤول الذي نقدمه او نقوم به من اجل توفير تلك الاحتياجات لمن يستحقها .
عندما داهمني الاحساس بالجوع وقررت اللجوء الى مطعم متواضع للغداء , لم اكن بحاجة الى التكهن بما سيكلفني ذلك , كما لم اكن لقمة سائغة لصاحب المطعم او نادليه رغم تواضع مالدي من يوريات مهمة الايفاد , ورغم الخديعة التي وقعت في حبائلها عندما قيل لي بأن الجهة او الجهات الراعية لتوقيع اتفاقية الشراكة مع اوروبا ستتكفل اقامتي وطعامي وشرابي , ولم يكن الامر كذلك بالنسبة لي على وجه التحديد , فسعر الوجبة وصورة اطباقها على باب كل مطعم وواجهاته , كفيلان بإراحة أي غريب في بروكسل من عناء التكهن والتقدير والحساب الدقيق بين مايحتاج وبين مايملك ??
هل خطر لاحدنا مرة, بل لمعظمنا , ان يحسب الوقت الذي يهدره في البحث عن سعر اقل عند شراء حاجياته المختلفة واليومية , مضافا اليه الوقت الخاص ايضا بالبحث عن الجودة وتفادي احتمالات الغش والتدليس , ثمة عقل جمعي يوافق جميعهم على قواسمه المشتركة التي تتحول إلى أخلاق عامة ثم إلى أعراف , والعقل الجمعي لايعني ان نتشارك جميعا في رسم لوحة زيتية مثلا , وحيث ريشة الجاهل تطمس خطوط المبدع !
بقيت سويعات على توقيع الاتفاق في ذلك المقر الذي تقت دائما الى دخوله والتعرف الى طريقته في تجميع وتكامل الاشقاء الذين كانوا دائما اعداء !!