وبراون هو رئيس بيت المال وهو اللقب القديم الذي يعود إلى العصور الوسطى والمعروف اليوم بوزير المال. وهو الأول في تاريخ السجلات البريطانية الذي شغل هذا المنصب ثماني سنوات حققت خلالها بريطانيا نمواً اقتصادياً في كل سنة من سنوات خدمته, فالاقتصاد البريطاني اليوم نما بما يعادل 30 % عن الحجم الذي كان عليه حين وصل بلير وبراون إلى السلطة عام .1997
لكن العلاقة بين الرجلين, مهندسي الحداثة في حزب العمال واللذين خلصاه من السياسة الماركسية الأيديولوجية التي قامت على تعهّدات بالملكية العامة لوسائل الإنتاج والتبادل كانت مضطربة دائماً.
وسادت دائماً فكرة تنحي بلير عن رئاسة الحكومة ليخلفه براون. ويقول أصدقاء براون أن هذا كان وعداً محفوراً في الصخر, فيما يتذرّع أصدقاء بلير بأنه كان بياناً شفهياً ينّّم عن نية صادقة.
وكل عدة سنوات يبدو براون كمن فقد الصبر, أو أن بلير يتعرّض للضغط, كما حصل خلال الحرب على العراق, أو كما في الأزمة العائلية التي واجهها العام الماضي, حيث يظهر الخلاف بينهما إلى العلن.
في الواقع يمكن التذرّع بأي سبب كان. ومن خلال الكتاب الذي نشره أحد الصحافيين السياسيين المعروفين حمل عنواناً استفزازياً بريطانيا في ظل براون , والذي قال مؤلفه إن الفضل في الوضع الاقتصادي البريطاني الجيد في الوقت الحاضر يعود لبراون وليس لبلير, عاد الخلاف بين الرجلين إلى الواجهة مرة أخرى.
ويزعم الكتاب الذي وضعه محرر الشؤون السياسية السابق في مجلة الفايننشال تايمز روبرت بيستون أن بلير عرض الاستقالة من منصبه ليفسح المجال أمام براون لخلافته أثناء عشاء أقيم في منزل نائب رئيس الوزراء البريطاني جون بريسكوت عام .2003 وزعم أن بلير قال إنه فقد ثقة الرأي العام بسبب الحرب على العراق وإنه لن يتمكن من مواجهة ذلك لفترة طويلة . وفهم براون أن بلير يمكن أن يستقيل في الصيف الماضي وبالتالي يتولّى هو رئاسة الحكومة لمدة سنة قبل الدعوة لانتخابات عامة, لكن بلير نقض هذا الاتفاق وقرر الاستمرار في منصبه.
وراجت شائعات في لندن أنه سيكون للكتاب تأثير كبير في فترة عيد الميلاد أثناء انعقاد الدورات الحزبية السنوية والتي تحضّر للانتخابات العامة التي ستجري في أيار المقبل. وزادت كارثة تسونامي التي ضربت المحيط الهندي أثناء وجود بلير في إجازة بمصر بعيداً عن عدسات الكاميرات الأمور سوء.
وقطع بلير إجازته ليعود إلى لندن ويجد أن براون احتل العناوين الرئيسية للصحف الكبرى جراء حملة دعا فيها الدول العالمية لإعادة جدولة ديون الدول التي ضربتها الأمواج القاتلة في المحيط الهندي.
وحاول بلير استدراك الأمور وإعادة الاعتبار لمركز رئيس الوزراء فدعا لمؤتمر صحفي. لكن من سوء حظه أو عن خبث مقصود, قرر بلير عقد المؤتمر في لندن في الوقت الذي كان فيه براون يروّج من أدينبره في اسكتلندا لخطاب سياسي قال فيه إنه على الرغم من فظاعة أمواج تسونامي إلا أن الفقر والمجاعة لا يزالان في أعماق أفريقيا ودعا لخطة مارشال شاملة
لمواجهة أزمة الحرمان في أفقر دول العالم.
وفي مقابلة قبل يومين رفض بلير التأكيد ما إذا كان براون سيبقى في منصب وزير المالية, إذا فازت كما تشير جميع استطلاعات الرأي الحكومة الحالية بولاية جديدة في انتخابات أيار المقبل. وقال بلير كالمعتاد إنه من غير اللائق الحديث عن الحكومة الجديدة طالما لم يدل الناخبون بقرارهم في صناديق الاقتراع, لكن التحذير الذي وجهه لبراون كان واضحاً ولا يرقى إليه شك.
وهذا الأمر ينم عن مخاطرة كبيرة. فليس هناك شيء يمكن أن يؤذي حكومة حزب العمال أكثر من استقالة مدوية لوزير المالية غوردون براون قبل أربعة أشهر من موعد الانتخابات العامة. فسمعة براون في الأسواق المالية عالية لدرجة أن رحيله قد يؤثر على وضع الجنيه الاسترليني ويضر بثقة المستثمرين في بريطانيا, كما إن ذلك سيكون واضحاً بالنسبة للناخبين بأن الفريق الرابح في الحزب قد انقسم نهائياً. وهذا لا يعني بالضرورة أن براون قد يتمكن من إغراق بلير لكنه قد يضر به, ذلك أن العادة في بريطانيا هي أن رئيس الوزراء يقرر متى تتم الدعوة للانتخابات.
وهذا ليس مجرد خلاف بين رجلين نافذين كانا فيما مضى من أفضل الأصدقاء. فبراون اسكتلندي وبلير إنكليزي ( على الرغم من أنه تلقى علومه في مدرسة داخلية في اسكتلندا) . وبلير من النخبة البريطانية التقليدية ,انضم إلى جامعة أوكسفورد وتخرّج محامياً. والتحق براون بجامعة أدينبره وانخرط مباشرة في العمل السياسي. ويعتبر براون نفسه في المنزل داخل حزب العمال القديم ويشترك في المظاهرات الحزبية والاجتماعات النقابية التي تختتم بإنشاد العلم الأحمر الأغنية الماركسية القديمة التي حظرها بلير.
وأوضح براون أنه في الوقت الذي عمل فيه على تقديم أفضل سجل اقتصادي لبريطانيا بين أكبر الاقتصادات الأوروبية, فشل بلير في تغيير النظام البريطاني. وفي الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العمومية للحزب في تشرين الأول الماضي, أعلن براون لم نقم بالكفاية لتحقيق
الآمال التي عقدت علينا عام ,1997 ولم يكن مطلوباً تغيير الحكومة فحسب, بل تغيير الطريقة في الحكم, وليس وضع سياسات مختلفة بل تغيير النهج السياسي .
وفي الوقت الذي تستمر فيه غالبية البريطانيين بالتفكير في مسائل مثل كارثة تسونامي, والوقت الذي ستبقى فيه القوات البريطانية في العراق, وما إذا كانوا يريدون فعلاً الموافقة على الدستور الأوروبي, يبدو أن الخلاف الشخصي بين بلير وبراون لا يحظى بالاهتمام الكبير بينهم. وفي الواقع فإن عددا كبيراً من الناخبين البريطانيين يفكر ملياً في الوقت الذي سينضج فيه بلير وبراون على السواء والشروع بتنفيذ العمل المنوط بهم.