والحالة الابداعية البسيطة-ان جاز لنا القول- التي خطتها يد الانسان على مر الزمن? -لا سيما ان الخالق قد صور مخلوقه على شاكلته..
وسواء تمثل هذا الابداع في احدى الحالتين, او كليهما, فنحن امام سمو وخلق عظيم استطاع ان ينقلنا الى جمال سموات الخالق. إذ لكل منهما تأثيراتها التي لاتحصى في عوالم الادب .
الحديث عن مسألة المعراج واحتمال وجود تأثير واضح لها في رسالة الغفران للمعري, كان الموضوع الاساسي الذي دارت حوله ندوة كاتب وموقف الاخيرة في ثقافي ابو رمانة, حيث ادار الندوة الاستاذ عبد الرحمن الحلبي وشارك فيها السادة : د.نذير العظمة-محمد شيخاني-د.صالح الرحال- والاديب الروائي خيري الذهبي.
ذكر الاستاذ الحلبي في بداية الندوة ان د. العظمة كان قد قدم دراسة حول رسالة الغفران ناسباً اصلها الى المعراج ذاته وهو الامر الذي توصل اليه قبلا كل من : طه حسين ولويس عوض ومشيراً -اي الحلبي- الى ان اللافت عند العظمة هو انه تنبه منذ حين الى ان الاوساط الادبية لدينا لم تتعرف حقيقة على المعراج كنوع ادبي متميز, وانما اقتصر الاهتمام به بادراجه ضمن باب القص الديني لا غير .
بينما تحدث د.العظمة عن كيفية تطور المعراج في الزمن التاريخي , وتحوله من حديث الى خبر الى قصة, ثم الى ملحمة , اذ قال :
(يجب ان نبين هذا التدرج التاريخي, ووظيفته انه لبى حاجات روحية في الجماعة الاسلامية, اذ كيف تم هذ التحول ولماذا هو - اي المعراج - مهم الى هذا الحد. هي القصة الوحيدة من ادابنا التي اثرت على الآداب الانسانية, وهناك ترجمة لها الى اللاتينية, اكتشفت حوالي القرن السادس عشر الميلادي,اي قبل ان يكتب دانتي ملحمته (الكوميديا الالهية) بسنوات عديدة. وهنا تكمن مهمتنا,الحديث عن الكيفية التي نفذت بها هذه القصة الى الآداب الاخرى: الفارسية والهندية والاوروبية).
اذ يعتقد العظمة ان المقاومة بالتراث هي أهم انواع المقاومة, وان اثاره قصة المعراج في هذا الظرف مهمة جداً. لأن المستشرقين -كما يرى العظمة- ومنهم ارنست رينيه الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر, يتهمون المسلمين بأن ابداعهم وجداني عاطفي, ولذلك فهم ليسوا بمرتبة الاغريق, يقول: (اذاً نحن امام رد تاريخي حضاري ضد المستشرقين الذين حاولوا ان يضعوا ادبنا العربي في خانة الدونية).
اما عن الموضوع الذي اثاره الاستاذ الحلبي حول الديالكتيك الروحي المعبر عنه بشكل ملحمي ودرامي في المعراج, والذي سبق الجدل الهيغلي, فقد وضحه د. عظمة : انه يعرف في الفلسفة جدلان جدل هيغل وجدل ماركس, الاول جدله مثالي , عبر عنه بمقولات فكرية مثالية حيث الصيرورة تكون بتعارض الاضداد. جاء بعده ماركس وطبق هذا الجدل على السياسة والاقتصاد والاجتماع. يقول العظمة: (اعتقد انه عندما قرأت المعراج وتحولاته وصوره, ورأيت فيه تحول الانسان بين الطين والنور, بين المادة والخالق, عرفت ان هناك جدلا صوفيا روحيا لا ريب فيه , وا لصيرورة تحصل نتيجة تنقل ما بين الضد والضد. ظننت اني اول من كتب بهذا الموضوع الا ان الكاتب الانكليزي (راسيل) كان قد سبقني اليه, الذي يقول ان الجدل (الدياليكتيك) موجود عند الصوفيين قبل هيغل).
-د. صالح الرحال , وهو شاعر وروائي وقاص, احال وارجع قصة المعراج الى ابينا آدم عليه السلام, ورأى انه يجب ان نفكر مليا بسؤال آدم الوجيه : ماذا بعد الموت ? ليحيلنا بذلك الى احد نصوص رسالة الغفران الذي يروي فيه المعري شجاراً بين شاعرين (الاعشى والجعدي) اذ يقف الحاضرون ليقولوا لهما: اذا مر بكما ملك من كتبة الحياة الدنيا يخشى ان يرفع امركما الى العلي الاعلى, فيخرجكما من الجنة وقد خرج ابوكما آدم لسبب اهون من هذا . اذاً الجنة ليست خالدة, وكذلك النار, ويمكن ان يكون هناك تبادل للأدوار بينهما (وهذا رأي علائي) كما يؤكد د. الرحال اتهم المعري كما يقال بالالحاد,عند هذا الامر يوضح الاستاذ محمد شيخاني الباحث في قضايا اللغة: انه من يقرأ رسالة الغفران للمعري, ويدرس آراءه الفلسفية,ويطلع على حياته, سيجد انه رجل مؤمن , قد قال ابياتا كثيرة في اللزوميات تثبت ايمانه بالله تعالى ولكن ايمانه بالعقل جعله يطرح افكاراً وآراء يختلف بها مع الآخرين التقليديين.
ولكن كيف لأعمى ان يأتي بكل تلك الصور الرائعة التي وجدت في الرسالة?!
و هو التساؤل الذي اثاره الروائي خيري الذهبي كاشفاً الغطاء عن قضية شديدة الاهمية,تروي قصة كاتب سوري هو لوقا السميساطي, او لوقيا نوس السميساطي عاش في القرن الثاني الميلادي. له كتاب يعتبر من اولى الروايات الحقيقية, اسمه (قصة حقيقية) تحدث فيه عن رحلتين , احداهما قام البطل فيها برحلة الى السماء, وهناك التقى الشعراء, فأخذ ينشدهم الشعر, وناقشهم فخطأ وصوب وهذا يحيلنا الى ما قام به بعد ذلك ابو العلاء في رسالته حين لقي الشعراء والفلاسفة, فناقشهم وحاورهم خطأهم وصوبهم بصيغة عربية. وهو الامر نفسه يتكرر في كوميديا دانتي ايضاً.
ثم يذكر الذهبي الصورة التي ابتكرها ابو العلاء (الاعمى) التي يرى فيها شجرة تحمل ثمراً من نساء فيتساءل الذهبي: كيف استطاع ان يستخرج صورة كهذه , وقد كان لوقا قد اوجد صورة فيها ا شجار تحمل ثماراً من نساء.
ليستنتج نهاية الذهبي ان ابا العلاء كان مطلعا على كتاب لوقا, يقول:
(هذا الموتيف او اللازمة الصغيرة التي فرت من يدي لوقا الى ابي العلاء تكاد تبرهن انه كان مطلعا على ادب لوقا).
وايا كان الامر فلكل اديب حق الخيال والابداع الحر, دون ان نلغي جانب وحدة التجارب الانسانية في كل زمان ومكان .