إن الاقتراب من الواقع الذي تتقلب إسرائيل فوق أمواجه العاتية مشرفة على الهوي على قاعه السحيق ولا قرار لهذا القاع يجعل صورة هذا الواقع واضحة المعالم إلى حد يقطع الطريق على الشك المنكفىء على نفسه أمام زحف اليقين وضراوة سطوته.
لاحاجة لتأمل الخطوط الجلية والغامضة لهذه الصورة لأنها تصر على تقديم نفسها بنفسها بعيداً عن مساحيق التجميل, وغني عن القول إن هذه الصورة لم تستشر إسرائيل في تقديم نفسها وإلا ماكانت لتتردد في إخفاء معالمها إلى درجة تختفي معها هذه المعالم, يرفد إسرائيل في ذلك تاريخ عريض طويل في الاعتداء على الحقيقة التي تفرمنها خوفاً وهلعاً, وما فعلته خلال أيام الهوان التي عاشتها بعد أن اعتدت على لبنان العروبة والكرامة شاهد حي على ذلك, فقد فتحت قنوات إعلامية بثقب الإبرة لنقل مجريات حربها الظالمة على لبنان, وكانت ترى أحياناً ثقب هذه الإبرة كبيراً فتعمد إلى تضييق فتحته, لكن الظلمات التي عاش فيها الإسرائيليون أخرجتهم إلى نور الحقيقة المرة, ففي ظلمات الملاجىء وبين قضبان الخوف الذي استمر زهاء شهر عرف الإسرائيليون أن حكومتهم( الرشيدة) التي غرقت في ضلالها ورطتهم في مأزق لم يجنوا منه إلا الخزي والشعور بالرعب يلازمهم أينما اتجهوا ضمن حدود كيانهم الذي تصر حكومتهم على أنها وحدها هي التي تقرر حدوده.
الصورة في قراءة أولية لفض محتواها تشير إلى معاناة إسرائيل من ظمأ شديد إلى الشعور بالأمن ولعلها تجد الدواء في إفراغ مافي جعبتها من حقد على الفلسطينيين واللبنانيين, ونقل آلة العدوان والتدمير بين هذين الشعبين العربيين, اعتقاداً منها أن الظمأ تكسر حدته بممارسة هوايتها المفضلة في الانتقام من كل ماهو عربي, ومن يدري فربما كان هذا الظمأ مؤشراً على إصابة إسرائيل بالداء السكري الذي أصيبت به بعد أن ذاقت مرارة الهزيمة والاندحار وغطست في حمأة الهوان على أيدي فرسان المقاومة الوطنية اللبنانية فانقلبت مرارة الهزيمة سكراً مرضياً يجري في عروق إسرائيل المهددة بتصلب الشرايين.
كذلك تشير الصورة إلى ارتفاع ضغط الدم الشرياني ووقوف إسرائيل عاجزة عن تخفيض درجة هذا الارتفاع الآتي من ضغط الشارع الإسرائيلي على رئيس الوزراء(ايهود أولمرت) لمعرفة أسباب استحمام الجيش الإسرائيلي( الذي لا يقهر) بوحول الهزيمة في الجنوب اللبناني البطل الذي ابتدأ مشروع إنشاء مقبرة واسعة لفلول الجيش الإسرائيلي المهزوم وكان مقدراً لهذه المقبرة أن تتسع في الجهات كلها لو أصرت إسرائيل على إطالة أمد العدوان كما نصحها أولئك الحريصون عليها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية وتابعها الأمين بريطانيا.
والقلب الإسرائيلي يعاني هو الآخر من اضطرابات معقدة بعد أن رأت إسرائيل أن عمقها مهدد بصواريخ المقاومة الوطنية اللبنانية, ومادام عمق القلب مهدداً فكيف ستذوق إسرائيل طعم السكينة وأنى لها أن تعرف إلى الشعور بالأمان سبيلاً?!.
هذه هي الخطوط العربضة لصورة الواقع الذي تصلى إسرائيل بناره الحامية اليوم, أما التأمل في بعض التفاصيل الصغيرة فكفيل بتسليط بقعة الضوء على ما خفي من هذه الصورة وما خفي أشد وأنكى.
ومن هذه التفاصيل محاولة ظهور رئيس الحكومة( أولمرت) بمظهر الواثق المطمئن من أن شعبيته ذهب عتيق تزيده نار المحن صفاء وتسمو بقيمته, بينما الواقع يشير إلى أن الثلج بدأ رحلة ذوبانه عن ماضي( أولمرت) وحاضره ويبدو أنه اليوم ظهراً محنياً مثقلاً بالأخطاء والأوزار.
من هنا يمكن أن نفهم تردده في قبول أو رفض قيام لجنة تحقيق تكشف الغطاء عن المستور في الحرب الجائرة على لبنان, وليس الخيار متروكاً في قبول أو رفض اللجنة التي ستسأله عن الأخطاء التي ارتكبها يوم كان وزيراً للصناعة وعن تلك التعيينات التي قام بها وقد ارتدت اللباس السياسي المحض, ولم يكن هذا اللباس متين القماش فاتسعت خروقه ولم يعد في وسع( أولمرت) رتقها أو مواراتها.
إسرائيل جسد مريض ما في ذلك ريب وجدت في هزيمتها في لبنان أزمة تحاصرها من بين يديها ومن خلفها فلا تجد إلى الفرار منها وسيلة وكل مافي وسعها فعله القيام بعملية انسحاب منظم هرباً من هذه الأزمة, وهي الآن تبذل جهداً ضخماً للقيام بهذه العملية, لكنها بفعلتها هذه تفر من الأزمة إلى الأزمات الأخرى الأشد تعقيداً.
لقد اختارت بنفسها هذا الطريق الوعر باحتلالها أرضاً ليست لها واعتدائها على الشعب الفلسطيني الأعزل المستميت في الدفاع عن حقه, واندفعت في طريق الضلال باعتدائها على لبنان فلقيت على أيدي رجال المقاومة درساً ستذكره دهراً طويلاً, وهاهي اليوم تستأنف عدوانها على الفلسطينيين من جديد وسيرد الحق الكرة لهم على إسرائيل التي ستبقى أسيرة أزمات جثمت على صدرها ليلاً موحشاً لن يكون ميلاد الصباح من بعده بالأمر اليسير.