وما رافق هذا الحال من لغز لا أحد من العالم الغربي يريد حلّه، أو وضعه على طاولة التداول حين يكون في البرجين آلاف الموظفين الصهاينة ولا يأتي واحد منهم إلى دوامه صبيحة الانفجار الكبير عبر الطائرات المدنية. وقد رأى المجتمع الدولي كيف أشعلت أميركا الحريق بنفسها لكي تأخذ منه حجة في التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى ومن خارج قرارات مجلس الأمن الدولي ومنظومات عمل الشرعية الدولية. وبالفعل تمّ احتلال أفغانستان، ومن بعد العراق عام 2003م وشرعت أميركا تمارس الغطرسة الدولية في سياساتها القائمة على الخطاب الحربي بما يعني أن حق القوة يجب أن يكون الراجح في العلاقات الدولية على قوة الحق.
ومن تحليل الحدث الأميركي إن كان من وجهة نظر أميركية كما قدمته مراكز دراساتهم، أو من وجهة نظر مراكز الدراسات الدولية نتوصل إلى الشعور الأميركي الداخلي بأن المشهد الدولي غدا يتحرك بمعزل عن الكونترول الأميركي عليه، وأن القطب الوحيد المهيمن الذي امتهنته أميركا بعد النتائج الدراماتيكية للمتغيرات الدولية من عام 1985-1991م وسقوط النظام الشيوعي في أوروبا وخروج الاتحاد السوفياتي من خارطة العالم أصبح بعد عقد من الزمان رغم كافة عوامل الدفع فيه لإدامته، والإبقاء عليه يقع في دائرة التوقف، وفي مربع غير الممكن. وقد اتضح للمجتمع الدولي أن أميركا الصهيونية غير مؤهلة لقيادة النظام العالمي، وأن النظام العالمي على طريقة فرض النموذج الأميركي وحضارة الأنكلوساكسون ليس له فضاءعالمي حاضن، وليس فيه من النموذج ما يقتدى خاصة حين وقف العالم على إرادة أميركا بتوتير الأجواء الدولية بدل استقرارها، وبإنهاء مظاهر الحرص على الأمن والسلم الدوليين بدل توطيدهما، وعلى عدم احترام نصوص القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة التي وضعت أميركا معظم بنودها في عقابيل انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م .
وعليه فقد انقلبت أميركا -في الخطاب الحربي- على نفسها قبل أن تنقلب على السّنن الدولية التي أُقِرَّت في يالطا في نهاية الحرب العالمية الثانية، وافتقد النظام الدولي العادل ليدخل العالم إلى جيواستراتيجيا جديدة تحاول أميركا أن تغتصب إرادة روح العالم، وأول ما طلعت به على العالم هو العولمة بوهمها أنها خلال عقد من الزمان من 1993-2003م تكون قد جعلت من العالم قرية كونية صغيرة للإنترنت لكن الكونترول وكافة وسائط التحكم بيدها. وحين مضى العقد المحدّد ولم تصل إلى تأطير العالم كما ترى رغم احتلالها لأفغانستان، والعراق، وظهورها بمظهر السيد الدولي الذي لا يقبل شراكة أحد في قيادة النظام الدولي معه، ولو كان من الأطلسيين، ولاحظنا في أكثر من مؤتمر دولي حدث في أوروبا بأن الرئيس الأميركي يدخل المؤتمر ليزدري كافة الطروحات التي تحلل الوضعية العالمية الراهنة خاصة فيما يتعلق بالاحترار والتغيّر المناخي، والأوزون، والبيئة، والفقر، والبطالة، والعلاقات الدولية والمشكلات العالمية العالقة.
نعم إن كافة هذه القضايا لم تكن تعني بوش وغيره من القادة الأميركان بل ما كان يعني أميركا أن هناك إرهابا دوليا إسلاميا، وهناك عدو دولي ممثلاً بما تسميه الإسلام الإرهابي يجب أن ينظّم العالم للقضاء عليه تحت الجناح الأميركي. وفي هكذا سياسة اعتقد المخططون الصهاينة في الإدارة الأميركية بأن ضبط وجهة النظر الغربية وجعلها ملحقة بالجيواستراتيجيا الأميركية سوف يكرس قيادة أميركا للنظام الدولي ولو بالقوة، أي بالحروب الصلبة، ولهذا الغرض طرحت أميركا قضية الفوضى الخلاقة حتى تُدْخِلَ المجتمع الدولي في نظام اللانظام، وتسيطر على الأمم من خلال إثارة الحروب الداخلية فيها بغية تفكيكها من الداخل وتفكيك النظام الدولي كله وإنهاء أي أثر لما كان قد اتفق عليه في نتائج الحرب العالمية الثانية؛ أي من يالطا 1945م إلى مالطا 1991م يجب ألا تبقى أيّةُ سُنّة دولية نظّمت العلاقات بين الأمم ليقوم اليانكي، ورعاة البقر بقيادة العالم الذي سوف يُعاد تركيب النظم الداخلية لأممه على رغبات ومصالح قادة الكوي بوي وعصا رعاة البقر.
نعم هكذا كانت الطريقة الأميركية لقيادة العالم لكن صانع القرار الأميركي حرصاً منه على تغليب مصالح الصهيونية على المصالح القومية العليا للشعب الأميركي لم يولِ قضية النمو الاقتصادي للدول الكبرى مثل روسيا، والهند، والصين، والأرجنتين، وجنوب أفريقيا، وكذلك لم ينتبه إلى أن العالم صار يشهد حالة أمم صاعدة، وأمم هابطة ومتراجعة في العلاقات الدولية، ومن هنا ظهر البريكس، وشنغهاي، وقزوين، وآسيان وتغير شكل العلاقات الدولية لتصبح أميركا هي السبب الوحيد -لعدم تمتّعها بالأخلاق اللازمة لقيادة النظام الدولي- أمام معضلة تغيّر العالم في مشهديه: الاقتصادي، والعسكري، وأن منظومة القوة الأميركية لم تعد كافية لإجبار القوى الصاعدة على الرضوخ لإرادة أوهام اليانكي وللصهاينة الذين يديرون إدارته في البنتاغون، والكونغرس. ولكي تستعيد أميركا المبادرة الدولية التي افتقدتها أثارت العديد من الحروب في الأقاليم المختلفة، ومنها في المنطقة العربية التي تهمها أولاً باعتبارها الوكيل الحصري في تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض العرب.
وقد تلاحقت عدة أحداث وحروب على أرضنا من لبنان إلى سورية، إلى غزة، وحين فشلت العدوانات والحروب الصهيونية بالدعم الأميركي، ومنذ عام 2008م شرعت الأزمة المالية الدولية تقوّض أحلام الجيواستراتيجيا العالمية الدولية لأميركا، وشرع العالم يشهد التحرك السياسي نحو فرض صورة العالم المتعدد الأقطاب في النظام الدولي، والوقوف بوجه خطاب القوة الصلبة الأميركية ما أجبر أوباما الرئيس الأميركي أن يستبدل السياسة الأميركية في ما سمّاه: القوة الناعمة التي سوف تحقق الأهداف الأمروصهيونية ذاتها لكن بمزيد من المرونة في العلاقات الدولية، ومع ذلك بقيت استراتيجية الفوضى الخلاقة من وجهة نظر أميركا هي المحور الأساس في العلاقات الدولية.
وفي بداية العقد الثاني من هذا القرن تكثّفت القناعة الأميركية والصهيونية بأن الحال العربي إذا استمر على تراكم القوة الحضارية بكافة أوجهها فالمشروع الصهيوني إلى زوال؛ وباعتبار أن النظام الملكي والمشيخي الأعرابي تحت السيطرة الأمروصهيونية فلا بد من نسف الدولة الجمهورية العربية بداية من تونس حتى يتحقق الهدف الأهم في سورية، وانطلقت الفوضى الخلاقة لتدمر الدولة الوطنية العربية باسم الثورات، والربيع وبعد مضي السنوات الثماني والنيّف تفشل هذه السياسة في خندق صمود سورية وتتبدل مع هذا الفشل صورة العلاقات الدولية ليبدأ الفيتو الروسي والصيني يبدل حالة التوازن في القرار الدولي لمصلحة قضايا الأمم العادلة. وبنتيجة فشل أميركا ومعها حلفاؤها رأينا ترامب ينقلب على المعاهدات الدولية، ويوتّر العلاقات الدولية بالحصار الاقتصادي الجائر، وبالحروب التجارية، ويحاول أن يجر وراءه أوروبا ولو بعكس مصالحها ما أدى إلى اعتراف ماكرون الرئيس الفرنسي بتراجع الهيمنة الغربية في العلاقات الدولية ثم بإعلان رغبته مع ألمانيا لتحسين العلاقات مع روسيا لما فيه من نفع للمصالح المشتركة، ومنعكس هذا الحال على حرب سورية على الإرهاب سيكون مهماً إذ لا بد لأردوغان من أن ينفّذ سوتشي اثنين وقبل اجتماع الضامنين في أنقرة 16/09/2019م، وتعود سيادة الدولة على كامل تراب إدلب، ومن ثم إلى شرق الفرات وفتور أميركا مع أردوغان في المنطقة الآمنة المزعومة دليل يأس أميركي من أي نجاح في هذا المشروع.