حلب هذه المدينة الرابضة في شمال سورية استطاعت بحكم مركزها الديني والتجاري القديم ، وموقعهاعلى طريق الحرير ، أن تتصدى لعاديات السنين وتبقى ماثلة إلى اليوم وفي موقعها الحالي نفسه ، تسيل الحياة في شوارعها ، لقد دثرت لداتها بابل ونينوى وإيبلا وماري ، ودثرت مدن بنيت بعدها ، وبقيت حلب تمد جذورها في ليل الزمن وترفع رأسها نحو الشمس في كل صباح .
يذكر البروفسور ألفونسو أركي عضو البعثة الإيطالية والمختص بقراءة ألواح إيبلا أن أقدم ذكر لحلب باسمها الحالي يعود إلى خمسة آلاف عام.
كانت حلب نهاية السهم في مسارات القوى الغازية عبرالتاريخ: الحثيين القادمين من البلقان عبر البوسفور 2000ق م، والمصريين في عهد تحوتمس الثالث 1483 ق م، والآشوريين 1280 ق م والآخيين الذي قضوا على الإمبراطورية الحثية 1180ق م، والميديين والفرس والسيت والبابليين وفرس قورش الذين احتلوا سورية عام 539 ق م والإغريق بقيادة الإسكندر الذي استولى على حلب عام 333 ق م، ويذكر أن الإسكندر عندما وصل إلى حلب استأذنه أستاذه أرسطو وكان في صحبته أن يقيم في حلب لحال تربتها وصحة هوائها فأذن له. وجاء الرومان بقيادة بومبة وأنهوا الحكم السلوقي عام 64 ق م . ثم راح الفرس والبيزنطيون يتنازعون السيطرة على حلب إلى أن حررها المسلمون بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح عام 41 هـ 636 م. سميت حلب بعدة أسماء منها في العهد اليوناني بيروا Beroia وقد زالت جميعها وبقي اسمها القديم «حلب» وصفتها «الشهباء» بلون حجارتها. وشهدت فترات سياسية متألقة عبر تاريخها بدأت في الفترة العمورية من أواخر الألف الثالث ق م وحتى أوائل الألف الثاني حيث كانت حلب عاصمة دولة يمحاض القوية تولي وتعزل الملوك في منطقة الهلال الخصيب، وملكها ياريم ليم يفرض سيطرته على عشرين ملكا من الفرات إلى البحر. ومن المعروف أن حمورابي (الحلبي) ابن ياريم ليم قد أرسل عشرين ألف جندي لإنقاذ بابل ومساعدة حمورابي البابلي صاحب الشريعة . كما شهدت فترة متألقة في عهد سيف الدولة الحمداني وخلفائه (333 ـ 404هـ) بما اجتمع في بلاطها من رجال فكر و أدب، وبتصديها للدفاع عن العرب المسلمين ضد الأطماع البيزنطية. وفي العهود السلجوقية والزنكية والأيوبية كانت حلب درع الأمة العربية والإسلامية وخندقها الشمالي في التصدي للغزو الأوروبي الاستعماري (الحروب الصليبية)، ومنها كانت تنطلق كتائب المجاهدين لتحرير القرى والحصون والمدن، ولو أن المدن الداخلية: حلب وحماه وحمص ودمشق قد سقطت في أيدي الإفرنج لكان للحروب الصليبية شأن آخر. أما في فترة الحكم العثماني فقد كانت حلب ثالث أكبر وأهم مدينة في هذه الإمبراطورية بعد إستانبول والقاهرة وقد لقبت بلندن الصغيرة وأثينا الآسيوية، وكانت لها علاقاتها التجارية الواسعة مع الشرق والغرب حتى قيل في المثل الشعبي " أعرج حلب وصل للهند " لا تجد منظرا أجمل من أن تقف على جبل جوشن حيث يقوم على سفحه صرحان من أهم العمائر الأثرية الإسلامية ويعودان إلى عهد سيف الدولة الحمداني وهما : جامع مشهد الحسين (ر) حيث كانت ولا تزال تقام احتفالات عاشوراء وتطبخ فيه القمحية للزوار وكان يحضر الاحتفال والي حلب وكبار الأعيان، وجامع مشهد الدكة أو الطرح الذي تصعد إليه بأدراج تتسلق الجبل. وتسرح النظر بعيداً فتمتد أمامك مدينة المآذن حلب الشهباء بأحيائها القديمة والحديثة وشوارعها وعمائرها الأثرية وقلعتها التاريخية التي وقف أمامها الغزاة عاجزين عن اقتحامها. وقد امتد العمران وامتد حتى إن هذا الجبل الذي كان ذات يوم مشرفا على المدينة أصبح اليوم في وسطها. هنا على هذا الجبل الذي كان يسمى جبل النحاس لأنهم كما يروى كانوا يستخرجون منه النحاس، ويسمى اليوم بجبل الأنصاري نسبة إلى قرية الأنصاري التي أصبحت واحدة من أحياء المدينة، ونسبة إلى الصحابي الجليل سعد الأنصاري بن أيوب وقبره لا يزال فيها وأخيه سعيد الأنصاري..هنا تشم عبق التاريخ.. هاهو سيف الدولة على ظهر جواده يقبل عائدا من غزو الروم منتصرا مطلا على أسوار المدينة، ثم ينحدر إلى دير مارماروثا يأخذ قسطا من الراحة ويتفقد رهبان الدير، ثم يتابع طريقه إلى قصره العظيم على نهر قويق. وعلى أنقاض هذا الدير قام مشهد الحسين اليوم. وهاهم الصليبيون يحاصرون المدينة وجيوشهم تعسكر فوق هذا الجبل ثم يعودون مندحرين. وهاهو صلاح الدين الأيوبي ينشر جيوشه فوق هذا الجبل في سعيه لتوحيد بلاد الشام قبل أن يخوض معركة حطين. وهاهم المغول والتتار والفرنسيون وغيرهم يطلون على حلب من فوق هذا الجبل ثم يمضون وتبقى حلب. إذا زرت حلب فعرِّج على أسواقها القديمة، هناك ستصافح التاريخ العريق لهذه المدينة، وستجد نفسك في معرض فولكلوري لأنماط الثياب والصناعات التقليدية والمعروضات، بالإضافة إلى الطرز المعمارية الرائعة للخانات والمساجد والأبواب وسقوف الأسواق، وأخلاط الناس القادمين من البادية والريف وأحياء المدينة بألبستهم التقليدية. وتعتبر الأسواق التاريخية من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لطبيعة بنائها وسقوفها المغموسة بحيث تحتفظ بدرجات حرارة معتدلة في الصيف والشتاء مع توفر الإنارة والتهوية، وكون كل مجموعة من هذه الأسواق مخدّمة بمرافق حيوية : مسجد، ميضأة، سبيل ماء، شاي خانة، تكية أو زاوية، خانات للبضائع وكانت لإقامة التجار والبعثات التجارية، حمام. مخازن للاستيراد والتصدير ومحلات تجارية، مطعم… ولهذه الأسواق أبواب كانت تغلق مساء بحيث تفصلها عن أحياء المدينة، ويتم الدخول إلى هذه الأسواق من أبواب حلب التاريخية كباب قنسرين وباب انطاكية وباب الفرج وباب النصر. وهي أطول أسواق تاريخية في العالم، يبلغ طولها على الجانبين 15 كم ومساحتها 16 هكتارا. ومن السوق الرئيسة الممتدة من باب انطاكية إلى سوق الزرب تجاه قلعة حلب تتفرع عشرات الأسواق المسقوفة وتتداخل بشكل هندسي رائع يضعك في أجواء خيالية، ويدل على خيال وإبداع المعمار الحلبي. كان اختيار منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم مدينة حلب في سورية عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1427هـ / 2006م قائماً على أسس ومعايير موضوعية وتاريخية، فقد كان لحلب دور حضاري كبير في بناء صرح الثقافة الإسلامية عبر العهود الإسلامية، كما أن لها تاريخاً عريقاً يمتد آلاف السنين قبل الإسلام وبعده. وفيها آثار عمرانية ماثلة تمثل أربعة عشر قرناً من حضارة الإسلام. وقد شهدت عصوراً ثقافية ذهبية في عهود متعددة كالعهد الحمداني أيام سيف الدولة والعهد الأيوبي أيام الملك غازي بن صلاح الدين الأيوبي. كانت حلب ولا تزال واحدة من أهم مراكز الثقافة الإسلامية في العالم، كان يقصدها الطلاب من جميع الجهات لتحصيل العلوم، وكانت محط رحال الكثير من رموز الثقافة و الفكر الإسلامي، وبرز فيها أسماء كبيرة في الفقه والتفسير والحديث النبوي والأدب والشعر ومختلف أنواع العلوم. يقول ياقوت الحموي في معرض حديثه عن ابن العديم: «وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ». وبعد الفتح الإسلامي نشأ في حلب طبقة واسعة من العلماء والمحدِّثين يقصدهم طلاب العلم من جميع الأقطار البعيدة. ويقول مؤلف كنوز الذهب: إن حلب بلدة العلماء والمحدثين والنحاة. دخلها العلماء قديماً وسمعوا بها على شيوخها وعلمائها، منهم أبو القاسم الطبراني قدم حلب سنة 278هـ، وأحمد بن الخليل الحلبي، وأحمد بن المسيب، وعبد الله بن إسحاق الصفري، وشيخ الإسلام أبو داود، ومنهم أيضاً أحمد بن حنبل، وخلف بن سالم، وابن بويه الربيع بن نافعن وغيرهم كثير، أما أئمة الحديث فيها فيطول تعدادهم. وحكى ياقوت الحموي أنه وجد فيها الباشقردية وهم طائفة من الهنكر (شمالي أوروبا) شقر الوجوه والشعور قدموا للدراسة في حلب. وكان العلماء في حلب يدرِّسون طلابهم في المساجد والبيوت قبل أن تبنى المدارس وتتسع في العهود الزنكية والأيوبية والمملوكية والعثمانية وإلى يومنا هذا. وفي العهدين الحمداني أيام سيف الدولة والمرداسي وجد في حلب فحول من العلماء الآتين من الأقطار الإسلامية، ومن الحلبيين، بالإضافة إلى فحول الشعراء والأدباء والنحاة كالمتنبي وكشاجم وابن خالويه وأبو علي الفارسي. وكان من يريد التخصص في العلم يقصد حلب، أم البلاد، وواحدة من أهم مراكز الثقافة الإسلامية، يقول شمس الدين بن خلكان في وفيات الأعيان: «ولما وصلت حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة 626 وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلم والعلماء والمشتغلين» كان الجامع الكبير بحلب من أهم مراكز الثقافة العلمية والأدبية والإسلامية بحلب، وكان من الذخائر الفنية العلمية في هذا الجامع شجرة عظيمة ذات جذع ضخم وأغصان وأوراق تدعى شجرة الإفادة غرسها خليل بن أحمد غرس الدين شرقي الجامع، مصنوعة من حجر ونحاس وحديد، ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية، فكان الطلبة يأتون إلى حلب من البلاد القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة على هذه الشجرة. هذه حلب التي صنفت فيها عشرات الكتب والموسوعات، ووضعت مئات البحوث والدراسات. ولا يزال مجدها في القلوب قائماً إلى الآن، وكنت ألمسه حين حضوري المهرجانات العربية الفكرية والمسرحية، إذا ما يكاد المشاركون فيها يعرفون أنني من حلب حتى تطغى على نبرة حديثهم الاحترام التاريخي الكبير لهذه المدينة. هذا غيض من فيض، من شهادات المؤرخين والفضلاء التي تؤكد أن حلب عبر تاريخها كانت عمارة شامخة للثقافة الإسلامية. ومن أجل دورها هذا اختيرت كعاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1427هـ/ 2006م .