التي تتهمها موسكو بخلق (الحزام الأخضر) وفق عقيدة بريجينسكي المعادي لروسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي, وذلك لإكمال الطوق حولها. وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة, يعبر الخط الروسي عن سياسة الاستمرار التاريخي مع العهد السوفييتي.
وضمن هذا السياق, تعمل روسيا, منذ انتخاب بوتين في عام 2000 على إعادة إعمار قوتها بخطى متسارعة، وتسعى في عالم تريده أن يكون متعدد الأقطاب ويخضع للقانون الدولي إلى فرض نفسها عبر بناء تحالفات مع دول ناشئة (الصين والهند وإيران) ومواجهة القطبية الأميركية. ويفسر هذا التوجه انخراطها في قيادة العالم بهدف الحد من الصراعات في الشرق الأوسط والسعي إلى استقراره استناداً إلى الشرعية الدولية. وضمن هذا الإطار, تعتبر سورية جزء أساسي من الاستراتيجية الروسية.
وضمن بيئة معادية يتبع الخط الروسي المنطق الدفاعي الرامي إلى حماية المصالح الوطنية ومواقفها في الساحة الدولية. وقد بررت الحرب العالمية الكبيرة ضد سورية من أجل تدميرها والهيمنة عليها الهجوم الروسي عبر تدخلها الشرعي في هذه الدولة منذ عام 2015 لأن موسكو كانت تواجه خطر استبعادها من منطقة استراتيجية وحرمانها من الوصول إلى المياه الدافئة. بالإضافة إلى أن سورية تعتبر الحليف التاريخي لروسيا السوفياتية ورمز وضعها كقوى عظمى صديقة لدول عدم الانحياز. وأمام هذا كله لم يعد بوسع روسيا التراجع.
ويعود الطابع الاستراتيجي لسورية على رقعة الشطرنج العربية إلى موقعها في وسط دوائر الطاقة واستراتيجيات التحالف. وبالتالي, كان من الطبيعي أن يتزامن تطرف الحراك السوري عام 2011 مع مشروع الغاز الإيراني (الموالي لروسيا) الذي أزاح خيار المشروع القطري (الموالي لأمريكا) ولذلك أصبحت سورية بقيادتها عدواً للمعسكر الخليجي الغربي التي ينبغي محاربتها. ومن هنا بدأت جحافل المرتزقة تتسلل إلى سورية وفقد الصراع صفته الاجتماعية الحراكية وأصبح دولي ضمن إطار حرب معلومات. وتعتبر سورية محور يحول دون استقرار منطقة الشرق الأوسط, ونقطة ساخنة يمكن أن تشعل حرب دينية.
من الناحية الهيكلية, ترمي الاستراتيجية الروسية في سورية إلى إبعاد التهديد الإرهابي الممتطي تيارات معادية لروسيا ومدعوم من قبل الغرب ومتغلغل في بعض دول الاتحاد السوفياتي السابقة. ومنذ بداية ما يسمى (الربيع العربي) عام 2011، أصبح الفضاء السوفياتي السابق مرتع للمتطرفين في الشرق الأوسط وأرضاً خصبة لتدريبهم وتشكيلهم. وأحد العوامل المقلقة بالنسبة لموسكو هو هشاشة السكان المسلمين الروس (20 مليون نسمة) الذين تستهدفهم إيديولوجيا المتطرف. وقد رأى الرئيس بوتين أن انهيار الدولة السورية وسقوطها يعني شتاء متطرفا.
وتعتبر الأزمة السورية شكل مشتق - تحت ستار ديني- من ثورات نيوليبرالية ابتلت فيها الدول المحيطة بروسيا مع مطلع الألفية الثالثة بقيادة الولايات المتحدة, تهدف إلى تنصيب قادة منصاعين ومواصلة تراجع القوة الروسية التي بدأت تنتعش في أعقاب نهاية الاتحاد السوفييتي عام 1991 من أجل احتوائها. وكان التدخل الخارجي عبر أنشطة المنظمات غير الحكومية والدعم المادي للجماعات المتطرفة أو المسلحة حاسماً في زعزعة استقرار الأنظمة الموالية لروسيا في المناطق العربية. ومن خلال المنظور الروسي, فإن الحرب في سورية هي نتاج حراك تغذى من الخارج من خلال تسييس الدين, بدفع وتحريض من دول الخليج المتعاملة مع التطرف الديني بمباركة غربية. وهدف موسكو في روسيا هو أيضاً تأكيد عودتها على الساحة الدولية كقوة عالمية قادرة, من جهة على المساهمة في حل النزاعات الكبيرة (عن طريق مسارات جنيف وأستنة) ومن ناحية أخرى معارضة الأحادية القطبية المسلحة للقوة الأميركية الفائقة(عبر تحكمها بمجلس الأمن الدولي) وضمن هذا الإطار, تتطلع موسكو إلى إقامة قيادة متعددة الأقطاب وأكثر ديمقراطية وتمثيلاً, تدمج أصوات القوى الناشئة الرئيسية- الثقل الأوراسي- وتفعيل آليات عمل الأمم المتحدة.
وبالتالي, ترفض موسكو التدخل في شؤون الدول, والذي له تبعات كالتي رأيناها في العراق وليبيا، مثل تدمير هياكل الدولة وزعزعة استقرار المنطقة وخلق صراعات تؤدي لإبادات جماعية. وتستنكر استغلال الثورات السياسية(النيوليبرالية) والدينية (الإسلاموية) والقومية(الهوية) من أجل تبرير تدخل عسكري(عبر حلف الناتو) والانتهاء من التطورات الجيوسياسية. وهذه الثورات التي تستهدف الآن فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي تعتبر من منظور الأمن الروسي (تهديدات رئيسية)
وفي نهاية المطاف, تتطلع روسيا لكي تظهر في سورية كعامل لاستقرار الأمن, وتعيد تأهيل مؤسسات الدولة والدعوة إلى تحالف واسع ضد التهديدات العالمية الجديدة والإرهابيين. إنه شكل من أشكال الريالبوليتيك تحت اسم السلام في الشرق الأوسط.