تارة يأخذنا الشاعر عبر هواه حيث يريد.. وأخرى يجول في أثداء الحياة متوغلا في خشونتها وعذاباتها ومستريحا هنيهة على ضفاف ملذاتها.
الشاعر أراد أن يقدم للقارئ صورة محببة عن إرادة الحياة القريبة من تطلعاته لكنه أغرق قصيدة (إرادة الحياة) بمفردات عديدة تعكس الحالة التي يعيشها في أيامنا هذه مثل: الأسى - الحزن - الموت - الكآبة - الحمم - المحرقة.. ورغم كل هذا الأنين عاد ليخبرنا أن حديقة الرماد اخضوضرت، يقول أبو النصر:
في محنة الحب
يكون المنتهى بداية الجريمة
محرقة النبض بآتون الوريد
تفحمت موائد الجليد.. وأزهرت حديقة الرّماد
تثاءب البركان أهدانا حمم
في حضرة الموت تغيب الأوسمة
وتصبح الألقاب شيئا تافها
ولاية الدم انتهت.. وأقبلت ولاية التراب
صيرورة الخلق اقتضت
لا بدَ أن تأتي الحياة...
كما هو ملاحظ قصائده مملوءة بزخم وجداني فيها دلائل ورموز وإشارات موحية، بعضها واضح وجلي.. والبعض الآخر متعب للقارئ العادي، يقول في قصيدته (يجرحني الماء):
تنهشني ثعلبة الوقت.. بمخلب الَضجر
يطعنني الصمت بحرية الضجيج
يلوكني الرفض بأسنان الندم
يخدشني الضوء بأهداب القمر
يجرحني الماء بشفرة الرذاذ
تلدغني بنابها أفعى ويرثيني غراب
أخاتل القصيدة الثكلى
وفي ذاتي اشتهاء لرقشك الزاهي
ورفضك الجميل على مشارف الغيوم....
ألم كبير، وجرح عميق، يعتصر قلب الشاعر على الخراب والدمار والقتل والتنكيل بإنسانية الإنسان
يبدو أن الشكوى والتبريح والوصب تحول عند شاعرنا إلى شراب ارتوت منه أوصاله فأنشد يقول:
تعتّقت عظامي بعتمة الدماء
ولولة القتل تناديني.. وفي ضوئي انكسار
يجلدني الورد بكرباج الرحيق
تفقؤني الشمس بمخرز الضياء
مدججا بالطلقة الأولى.. أمزق الحصار...
ويمضي الشاعر بقصائده مبديا لواعجه الذاتية العامة، ليتسرب منها إلى الهم الخاص، المملوء حبا وشوقا ووجدا، يقول أبو النصر:
مرّ طيفا في خيالي ثم ّتاه.. أسكرتني مقلتاه
أسلمتني للعوادي راحتاه.. قلت رفقا يا حبيبي
هاك قلبي قال عفوا.. ليس عندي مبتغاه
قد رشقت الشهد خمرا من جناه
ولثمت الخدّ بدرا في سماه
وملأت الكون عطرا من شذاه
ونثرت الشوق درّا في مداه
هل تراه كان حلما.. أم حبيبا وعيوني لا تراه؟
يتساءل القارئ ما حكاية الشاعر..؟ انفعالاته لا تهدأ وضجيجه مستمر.. وهو في حالة توق إلى التحرر من كل قيد.. سواء من كماشة الوقت أو قبضة الورد وهيمنة الرغائب وخطيئة التشهي.
يبدو أن استياءه من الواقع المرير الذي يمر به بلدنا جعله يستخدم لغة ومفردات ودلالات تسيطر عليها الكآبة وتدفع القارئ لأن يسرح بخياله في دهاليزها وغياهبها غير المحببة، يقول في قصيدته (انعتاق):
في معجم الغبار.. عن فهارس الحزن
وهمزات السفر.. تفر من مطارق الضوء
وسندان الظلام.. تقتفي أي أثر...
إلى أن يقول:
عصافيرك هاجرت.. بساتينك أقفرت
وقنديلك هب ّ.. ومن ثم انطفأ