وفيها أبرز بالخصوص قسوة الأب على الابن الذي تحوّل إلى حشرة منفرة. وعلى مدى مرّات ثلاث، سعى كافكا إلى الزّواج غير أن محاولاته باءت جميعها بفشل ذريع. وبسبب الحمّى الإسبانيّة التي ظهرت عام 1918، اضطرّ للعودة إلى البيت العائليّ لعدم قدرته على العيش وحيداً. ويتنافى ذلك مع رغبته في الاستقلاليّة، ويتعارض مع الحلم الذي ظلّ يراوده طويلاً، والمتمثّل في الهجرة إلى فلسطين.
قبل الرّسالة المذكورة، كتب فرانز كافكا في يوميّاته بتاريخ 6 تموز 1919 يقول: «دائماً الفكرة نفسها، ونفس الرّغبة، ونفس الخوف. مع ذلك أنا أكثر هدوءاً من ذي قبل، فكما لو أنّ هناك تحوّلاً كبيراً في طور الحدوث، وأنا أحسّ ارتعاشه البعيد»
وفي الخامس من شهر كانون الأول من السّنة ذاتها، كتب يقول: «مرّة أخرى أجد نفسي مجرّراً خللَ ذلك الثّقب الطويل، الضّيّق، المرعب، والذي للحقيقة لم أنتصر عليه سوى في الحلم. في حالة اليقظة، وبقوّة إرادتي وحدها، ليس بإمكاني أن أحققّ مثل هذا الانتصار»
وفي عام 1918، عاش كافكا أزمة عاطفيّة جديدة لم تكن نتيجتها في النّهاية غير المزيد من الآلام والأحزان. فقد تعرّف وهو في المصحّة على فتاة جميلة تدعى يوليا فوهريسكوفا, وبعد أن تمّ الاتّفاق بينه وبينها على الزّواج، انتابت كافكا مشاعر الخوف، فشرع يشتكي مُجددّاً من اعتلال صحّته، الذي قد يعجّل بوفاته مبكّراً, فيفسد حياة جوليا الجميلة. وربّما تكون تلك الأزمة العاطفيّة الجديدة هي التي دفعت كافكا إلى كتابة رسالته المذكورة، مُفْصحاً عن كلّ ما ظلّ مخبوءاً في أعماق نفسه حتى ذلك الوقت. لذلك يمكن القول إنها- أي الرّسالة- الوثيقة الأهم التي تعكس الجوانب المخفيّة من حياته، وفيها يسرد وقائع، وأحداثاً عاشها في طفولته، وفي سنوات مراهقته، مستعرضاً علاقاته العاطفيّة الفاشلة، وآراءه في الدّين، وفي الأدب، وفي العائلة، وفي العديد من المسائل الأخرى.
جلاء الرموز.. خفاياها
من خلال الرّسالة نتبيّن أيضاً المعاني، والرّموز التي تحفل بها الأعمال التي كتبها قبل ذلك، خصوصاً «المسخ». وهي أعمال تبرز في جّلها علاقته المتوتّرة، والصّعبة بوالده لذلك يخاطبه في رسالته قائلاً: «في كتبي، الأمر يتعلّق بك، وأنا لا أفعل شيئاً لآخر غير التشكّي ممّا لا أستطيع أن أشتكي منه أمامك»
يبدأ كافكا رسالته على النّحو التّالي: «أبي العزيز جداً، طلبت منّي مؤخّراً لِمَ أنا أزعم أنّي أخاف منك. وكالعادة، لم أجد ما يمكّنني من الإجابة على سؤالك، وهذا يعود في جزء كبير منه إلى الخوف الذي توحي به إليّ، وفي جزء آخر إلى أنّ الحافز لمثل هذا الخوف يشتمل على العديد من التفاصيل. لذا ليس بالإمكان أن يتمّ استعراضه شفويّاً بنوع من التّماسك، ومن التّرابط المنطقيّ. وإذا ما أنا حاولت أن أجيبك كتابيّاً فسيكون جوابي بطريقة غير مكتملة. وسبب ذلك يعود إلى أنني وأنا أكتب رسالتي هذه، يعيقني الخوف، وتبعاته في علاقاتي بك. ثمّ أن عظمة الموضوع الذي أطرحه يتجاوز بكثير ذاكرتي، وإدراكي
وفي بداية رسالته أيضاً، يذكّر كافكا والده بما يقوله له دائماً عندما يحتدّ غضبه ضدّه: «سأمزّقك مثلما أمزّق سمكة». وهي جملة تعكس قسوة الوالد وعنفه تجاه ابنه الصّغير. كما تعكس احتقاره الشديد له. فلكأنه مجرّد حشرة بشعة يجوز أن يداس عليها بلا شفقة، ولارحمة. تماماً مثلما هو حال غريغور سامسا في رواية «المسخ». وبسبب القسوة، كان الخوف يزداد تعاظماً في نفس الفتى يوماً بعد آخر حتى إنه لم يعد قادراً على أن يتحدّث مع والده ب «قلب مفتوح».
ويعترف كافكا بأن والده يمثّل بالنّسبة له «القوّة، والصحّة، والشهيّة، وجوهريّة الصّوت، وطلاقة اللّسان، والاعتداد بالنّفس، والإحساس بالتفوّق على الآخرين، وحضور البديهة، والدّراية بشؤون الحياة والنّاس». أمّا هو فقد نشأ طفلاً هزيل الجسد، معتلّ الصّحّة، دائم التّردّد، والخوف. وعندما يرافق والده إلى المسبح ترعبه الفروق الشّاسعة بينه وبين والده. فهذا الأخير قويّ البنية، مكتمل الجسد، عريض الصّدر. أمّا هو فنحيف، ضيّق الصّدر، عليل الجسد. لذلك يطيل البقاء في كابينة المسبح خشية الوقوف جنباً إلى جنب مع والده أمام النّاس. وهذه القوّة الجسديّة جعلت كافكا ينظر إلى والده وكأنّه «طاغية يكتسب شرعيّته لا من خلال الفكر، وإنّما من خلال قوّة شخصيّته وحدها». وكما يحتقر ابنه، يحتقر والد كافكا أصدقاءه، فينعتهم ب «الحشرات»، وب «الكلاب» مهاجماً إيّاهم بحدّة غير عابئ بمشاعر ابنه تجاههم، ممعناً في جرحها بكلمات نابية دائماً، وأبداً.
ولا يخاطب الوالد ابنه إلاّ بجفاء وغلظة، مصدراً الأمر تلو الأمر: «كُلْ ولا تفتح فمك إلاّ بعد أن تنتهي من الأكلّ»، أو «كُلْ بسرعة... لماذا تتباطأ في الأكل؟!». وعلى طاولة الأكل يجد كافكا نفسه مجبراً على الصّمت، حذراً ومُرتاباً من كلّ حركة يقوم بها، أو من أيّ كلمة ينطق بها. أما والده فيفعل ما يريد، ويتكلم فيما يريد دون أن يجرؤ أحد على معارضته. فهو الآمر النّاهي. وهو يتعامل مع ابنه مثلما يتعامل السيّد مع عبده! ومن فرط الخوف من والده، فقد كافكا القدرة على الكلام. وكلّما حاول ذلك أصابه الارتباك، وتلعثم في نطق الكلمات.
ويتّهم كافكا والده بأنه السبب في فشل كلّ المحاولات من أجل الزّواج, لأنه لا يريد له أن يكون مستقلاّ يتصرف في شؤون حياته بحرّيّة، وإنّما يحرص أن يكون تابعاً له فلا يمكنه أن يتّخذ قراراً إلاّ بمشورته ورضاه.
ويجمع النّقّاد على أن الرسالة المذكورة تضيء جوانب مختلفة وشديدة التّعقيد في كلّ ما كتب كافكا من روايات وقصص. وهي ليست فقط رسالة موجّهة إلى والد قاس، وعنيد ومعتّدّ بذاته، وإنما هي موجّهة أيضاً إلى قارئ يجد نفسه ضائعاً في عالم غريب، مفعم بالألغاز. لكأن كافكا يريد أن ينصح القرّاء بضرورة قراءة رسالته قبل الشّروع في قراءة أعماله الروائيّة والقصصيّة.