كما انعكست هذه الفوبيا بشدة في خطابات بعض القادة الأوروبيين ما جعلها أقرب إلى خطابات تعبوية تصعيدية حربية منها إلى خطابات التهنئة المعتادة بمناسبة حلول العام الجديد.
وبينما انشغلت الأجهزة الأمنية في ألمانيا بمعلومات استخباراتية وصلتها من «جهة صديقة» تحذرها من إمكانية حدوث هجوم إرهابي لداعش على واحدة من محطات الميترو في مدينة ميونيخ، عاشت فرنسا على وقع هجمات باريس في تشرين الثاني الماضي فاقتصرت احتفالاتها على جادة واحدة في العاصمة تحسبا لما قد يحدث، كما ظهر فرانسوا هولاند لمواطنيه بخطاب متلفز من قصر الاليزيه توعد فيه بالقضاء على تنظيم داعش في سورية والعراق متجاهلاً الدواعش الآخرين الذين يسرحون ويمرحون في مناطق أخرى وخاصة في فرنسا وأوروبا بعلم ومعرفة الاستخبارات الفرنسية المتواطئة مع بعض الجمعيات والمؤسسات الدينية الممولة والتابعة لمشيختي قطر والسعودية.
وعلى الطرف الآخر من بحر الشمال أطلّ رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون بخطاب لا يقل تصعيداً عن خطاب جاره هولاند، متوعدا ليس فقط بضرب الإرهابيين والقضاء عليهم وإنما بضرب أفكارهم ونظرياتهم، متناسيا أن هذه الأفكار والنظريات هي نتاج السياسات البريطانية والغربية التي أنتجت الوهابية والإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وغذّت الفكر التكفيري تحت عناوين جهادية، إضافة إلى الكيان الصهيوني الذي يشكل إرهابه أكبر تهديد لأمن المنطقة والعالم.
الغريب حتى هذه اللحظة أن قادة الغرب مازالوا يهربون إلى الأمام في مواجهة الارهاب، حيث لا يبدو عليهم أنهم استوعبوا بعد حجم الأخطار التي تسببت بها سياساتهم الاستعمارية والتدخلية في شؤون الأمم والشعوب وخاصة شعوب منطقتنا، بحيث لم يتعاطوا بجدية كافية مع التحديات الهائلة التي أفرزتها هذه السياسات العدوانية، بحيث اعتقدوا أن إثارة المشكلات والأزمات في مناطق بعيدة خدمة لمصالحهم، ورعاية الارهاب ودعمه وتصديره خارج حدودهم يمكن أن يجنب بلدانهم وشعوبهم تداعيات ارتداداته المؤكدة، بحيث يكون لهم الحق في ملاحقة الإرهابيين في أي منطقة كانت متى أرادوا دون الأخذ بعين الاعتبار سيادة الدول ومصالحها وأولوياتها، كما يجري الآن في منطقتنا، حيث يصرّ قادة الغرب على محاربة داعش دون تفويض أو إذن أو تنسيق مع الحكومة الشرعية والمنتخبة في سورية اقتداء بروسيا وإيران وبعض الحلفاء والأصدقاء الذين يؤازرونها، متوهمين أن مثل هذه السلوكيات المتعنتة الأحادية يمكن أن تقضي على الارهاب أو تحول دون انتقاله إلى ساحاتهم وميادينهم.
القرار الأممي رقم 2253 وغيرها من القرارات الأممية ذات الصلة، أكد على ضرورة التعاون الدولي في مجال مكافحة الارهاب وتجفيف منابع دعمه ومصادر تمويله وتسليحه، ورغم أن هذه القرارات تشير بشكل رمزي ومبطن إلى دول بعينها تجاهر بدعم جماعات مسلحة تمارس الارهاب كالولايات المتحدة والسعودية وقطر، ودول أخرى فضحتها روسيا بالبراهين والأدلة القاطعة كتركيا الشريك الرئيس لداعش بتجارة وسرقة وتهريب النفط السوري والعراقي والبوابة الحصرية لدخول الإرهابيين إلى المنطقة، إلا أن قادة الغرب ما زالوا يتعامون عن هذه الحقائق، والأسوأ من ذلك أنهم يوقعون صفقات السلاح مع نفس الدول التي تقوم بتسليح بعض الجماعات الإرهابية المصنفة «معتدلة»، والجميع بات يدرك أن هذا السلاح ينتهي إلى أيدي الجماعات الأكثر تطرفا وإرهاباً كداعش وجبهة النصرة بحكم التعاون والتحالف والتشابه القائم بين هذه الجماعات وهذا ما أقرت به واشنطن صاحبة نظرية «الإرهابيين المعتدلين».
الأمر الآخر هو أن قادة الغرب يقدمون للإرهابيين خدمات مجانية عبر هذه الخطابات التصعيدية الجوفاء التي لا تؤثر في بنية الارهاب، أي إن هذه التهديدات غير الجدية تساعد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش على تجنيد المزيد من المتطرفين والمتشددين ممن يحملون نفس فكره «الجهادي» لمواجهة دول يعتبرونها «كافرة» وتهدد مشروعهم بإقامة «دولتهم أو خلافتهم» الإسلامية المزعومة.
من الواضح أن استمرار هذا النهج السيئ والسيناريو المكرر من التعاطي الغربي مع قضية الارهاب، سيظل يلقي بظلاله القاتمة على أمن واستقرار العالم، بحيث يبقى الهاجس الأمني وفوبيا الارهاب يغلفان احتفالات رأس السنة وغيرها من احتفالات العالم بمناسبات مختلفة، ومن واجب هؤلاء أن يتعظوا من فشل واشنطن في معالجة أسباب اعتداءات 11 أيلول عام 2001 حتى يغيروا نهجهم وسياستهم، وإلا فإن الفرصة مهيأة للمزيد من الأحداث المشابهة لاعتداءات نيويورك وباريس ما دام قادة الارهاب الحقيقيين خارج دائرة الاهتمام.