بالتأكيد.. هي رحمٌ ولود.. لكن هل خبروا ذلك وعاشوه واقعاً..؟
مخاضات الأدب على أرصفة الطرقات.. مهما تنوّعت واختلفت.. تبقى نتيجتها واحدة لدى روّاد هذه الطرقات.. محوّلةً إياهم روّاداً للكلمة.
بفضل الأرصفة.. بما تضمنه من معاينات وتجارب.. يتمكّنون من اعتلاء عرش الكلمة.. وامتلاك ناصيتها.
فتتقاطع تجارب الكثيرين.. تختلف.. وتتباين.. لتعود فتتشابه منتميةً إلى أصل (الأدب).
بعضهم انتمى إلى الطرقات عامداً.. انصهر بحياتها.. لكن دون أن يدرك أنها ستحوّله إلى كاتب.. يمارس فن الكلمة. وبعضهم حدث معه العكس.. كان كاتباً مكّنته حياة الطرق والتجوال من اختبار سحر الكلمة، عن قرب، أكثر.
هل نطلق عليهم: أدباء الطرقات، البوهيميين، أدباء التجوال، الشباب الغاضب..
هم كل هذا بالآن ذاته.. لاسيما عند تأكيد الوصول إلى الخلاصة عينها (الكلمة)..
حينها يكفي تذكّر أحدهم عنواناً أورمزاً يعيد للذاكرة بقيتهم.
< هونتر ستوكتون طومسون.. ملك الغونزو:
ملك في مكان.. صعلوك في آخر.. ولعل الصعلكة في اتجاه، جعلته ملكاً في الاتجاه المقابل.
هونتر ستوكتون طومسون الذي أنهى حياته منتحراً بإطلاق الرصاص على نفسه، عاش حياة التشرد والصعلكة.. وفي هذا يذكّر بكل من كولن ولسون وجاك كيرواك.. لكنه لم يختر ذلك في بداية حياته.. فتدارك الأمر في سنوات الرشد ليختلط بالشعراء والفنانين المتمردين. تنقل بالكثير من المدن محاولاً التقرّب من فئة المهمّشين والبوهيميين، وأيضاً السكيرين وتجّار المخدرات، وأناس العالم السفلي بما فيه من (بغايا، ضالين، ومشردين على الأرصفة).
عمل في الكثير من الصحف وأوجد نوعاً جديداً من الكتابة أطلق عليه (الغونزو) مازجاً الأسلوب الصحفي بأسلوب الرواية والقصة.
تمتلئ حياة طومسون بهالات من الفوضى والتمرد، هوالمولود في تموز عام 1937م بولاية كونتوكي الأمريكية. فعندما التحق بالطيران العسكري، لم تطل مدة انتسابه إليه أكثر من سنة، نتيجة تمرّده وعناده ورفضه تنفيذ أوامر رؤسائه.
تميز نتاجه الصحفي بمقاربته الواقع أينما حلّ. في نيويورك على سبيل المثال التي كانت مركزاً للكتّاب المتمردين، عاشر الكثير منهم.
انتقل إلى بورتوريكو، فتميّزت إقامته فيها بالسكر والعربدة، وفي تمثل نتاجه بروايته (يوميات شراب الروم).. التي يجمع النقاد على أنها من أجمل ما كتب، حيث صوّر فيها حياة الليل في بورتوريكوبما فيها من مافيات وبغايا.
وعلى ما يبدوأن متعة التنقل هرباً واللاستقرار.. كانت تجري في دماء طومسون، بالإضافة إلى تسببه بالكثير من المتاعب لنفسه ولمن حوله كان عاملاً آخر جعله لا يديم الإقامة طويلاً في مكان واحد، فمضى إلى كاليفورنيا.. ومنها إلى البرازيل، وهناك تابع مجموعةً من التحقيقات المرتبطة بعمل تجار المخدرات.
< كولن ولسون والأسئلة الوجودية:
من أنا؟.. ماذا أريد؟.. لماذا جئت إلى هذه الحياة؟..
على مثل هذه الأسئلة حاول كولن ولسون الإجابة في روايته (الضياع في سوهو).
في هذا العمل يتماهى الروائي مع بطله.. فالكتاب خلاصة تجربة عاشها في بداياته عندما جرّب العيش على طريقة البوهيميين.
عاين.. تفحص.. وجرّب الغوص عميقاً وبحثاً عن معنى للحياة من وجهة نظر هؤلاء المتوهمين عيش الحرية. النتيجة أن هذه التجربة قادته وهوفي خضم تجوالاته اللاهادفة، إلى المكتبة.. فقرأ.. فكر.. وأنتج كتابه الأول (اللامنتمي) عام 1956م، وهوفي الخامسة والعشرين وكان موضوعة عزلة المبدعين.
نظر إلى ولسون على أساس أنه ينتمي إلى مجموعة (الشباب الغاضب)، وهم مجموعة من الشباب المثقف المتمرد قدموا عدة أعمال مسرحية فترة خمسينيات القرن العشرين.
< جاك كيرواك في مهب الطريق:
غالبية موضوعاته تدور حول تساؤلات الإنسان الوجودية.
يتقاطع وولسون بكونهما اختارا حياة الأرصفة طواعيةً.. بينما يختلف عنه كون الأول لخص في روايته (الضياع في سوهو)مجرد تجربة عاشها في مرحلة عمرية محددة.. لكن كيرواك نقل في روايته (في مهب الطريق)ما يشبه السيرة الذاتية، مستفيداً من حياته التي قضاها على الطرقات.
عاش كيرواك حياة التجوال.. وكتب روايته تلك عندما كان يعيش في أحد شوارع مانهاتن، على أوراق تجاوز طولها الثلاثين متراً.
يقترن، عموماً، اسمه بنوع أدبي أطلق عليه (أدب الطرقات). عاش ظروف ما بعد الحرب.. وانتمى إلى مجموعة الشباب الأدبي الغاضب مما جرّته الحرب على الإنسانية.. عُرف عنهم رفضهم الملكية والوظيفة وتمجيدهم الفوضى.
ولهذا، يُعتبر، بالنسبة إلى نتاجه، منتمياً إلى التيار العدمي. تتجلى في أدبه صورة الإنسان الضائع لاسيما أنه هونفسه كان هائماً على الطرقات.
في تجواله الذي بدأه عام 1947م لم يرغب ولم يقرر فعل أي شيء.. وغالباً لم يدرك أن تجربته هذه ستوصله إلى الكتابة.
الظريف لدى كيرواك أن أدبه كان نتاجاً لكثير مما طبقه عملياً، فروايته الأخرى (البحر هوأخي)قيل عنها إنه كتبها وهوفي عرض البحر، يجوب العالم كبحار.