ولا أظنّ أنّ ثمّة ديناً سماويّاً، أو يدّعي السّماويّة يستطيع أن يصل إلى قلوب النّاس عبر التّشدّد، لأنّ التّشدّد عادة يأتي تالياً، ويصدر عن رؤية عقليّة ضيّقة غير سليمة، أو عن بنية نفسيّة لإنسان يشكو من فقدان التّوازن، فهو أيضاً ذو علّة، ومَن يتتبّع جذور التّشدّد، والتّطرّف، الذي هو أوّل خطوة في طريق تكفير الآخر.. يجد أنّ ثمّة مَن قدّم رؤية، أو اجتهاداً، رغم أنّه ليس من المؤمنين بالاجتهاد في الدّين، ولذا يعمد إلى إلباس الفكرة التي يقدّمها لباس (الفتوى) الدينيّة، أو الإسناد الكتابي، ويستشهد بآيات قرآنيّة بعد إفرادها عن سياق الرؤية الإسلاميّة التي حملت في جنباتها من الرّحابة مايجعل التّكفير حالة شاذّة عن الإسلام، بل هي ليست من جوهره السّمح في شيء.
لقد بيّنا في مقالة سابقة أنّ ثمّة تكفيريّين غير دينيّين، واعتبرناهم (تكفيريّين) من باب المجاز، لأنّ مفردة (التّكفير) هي خاصّة بمن يرفع راية الدّين في منطقة خاصّة، وإذا كان حمَلة الفكر، أو الأيديولوجيا غير الدينيّين يصنّفونك، بحزم نادر، في خانة هم يختارونها لك، فإنّ (التّكفيريّ) يطردك من رحمة اللّه التي وسعت السموات والأرض، بل ولا يتذكّر الآية القرآنيّة: «كَتَبَ ربُّكَ على نَفْسه الرّحمة»، ويقيم من نفسه محتسباً عليك وعلى عقيدتك، حتى لكأنّ اللّه قد خوّله مسؤوليّة العباد، ومثل هذا ليس من جوهر الإسلام، ولا من سماحته، والأدهى من ذلك أنّه، مع هذا التّطرّف الآثم، الذي يَفترض أنّ وراءه من يحمل من النّقاء مايليق،.. الأدهى أنّ فيهم مَن دفعوه لتقطيع الأحياء، وللاغتصاب، وللقتل الذي هو من أكبر الكبائر في الإسلام، وتلك علامة على انشراخ تلك الشخصيّات في سلوكها، وفي أفكارها.
-2-
في الثقافة البشريّة العامّة، ونعني منظومات الأفكار التي تساهم في إغناء الإنسان، وفي توعيته، وفي جعله أكثر إنسانيّة، وأعمق غوصاً على اللآليء، في الثقافة هذه.. شيء ما يتقاطع مع القوانين الفيزيائيّة من حيث وحدة الجوهر، وفي هذا التيّار تصبّ جميع الأنهار الكبيرة والصغيرة، من الأمم التي أنتجت ثقافات إنسانيّة رحيبة، إلى الشعوب التي لم تترك سوى بعض القصص والأمثال، والقليل من الميثيولوجيا، وهذا مايعيدنا إلى جوهر أن تكون لنا نظرة إنسانيّة عامّة، مع الحفاظ على كلّ مايمكن أن نفتخر به من تراثنا، ولعلّ في مقدّمة ذلك تلك الوصايا الكونيّة التي نبتت في هذه الأرض: «لاتقتلْ، لاتزنِ، لاتسرقْ، لاتشهدْ الزّور.. الخ..»، هذه الرّحابة الثقافيّة التي تفتح الباب واسعاً للتفاعل بين ماتنتجه الأمم من ثقافات إنسانيّة عالية لاعلاقة لجماعة التّكفير بها، وذلك لأنّ التّكفيريّين، وفي مقدّمتهم الوهّابيّون يحملون منظومة فكريّة مُنجَزَة، ثابتة، قال بها فرد، وربّما أضاف إليها من أفراد المذهب شيئاً كلّ قيمته أنّهم يطلبون أن يُهتدى بهديها، وهي إجمالا مجموعة أقوال لأناس اجتهدوا في أمر ما، واعتبروا ماقالوه هو جوهر الدّين وما عداه ليس إلاّ انحرافاً، وبهذا التّضييق، وبتلك الشّدة يخرجون من رحابات الثقافة الإنسانيّة إلى سجون (المذهب)، وهذا يوقفنا أمام أسئلة أساسيّة، يكون من خلاصة التّمعّن فيها:
1- ليس كلّ (اجتهاد) ممّا يؤجر الإنسان عليه، ولاسيّما حين يكون الاجتهاد خروجاً، أو انحرافاً، أو ذهاباً إلى التّيه.
2- إنّ إنسانيّة الفكرة، أي ماتحمله من قيم لصالح الإنسان، في حياته العامّة، وفي أفكاره، وفي سلوكه، هي التي تجعلها وضيئة، وهي التي تضعها في مصاف القناديل الهادية في الظّلمات، وأنّ العاتم هو مايخرج عن ذلك،
-3-
التّكفيريّون لايقطعون فقط مع آراء المذاهب الأخرى بتشدّد أعمى، بل هم يقطعون مع كلّ ماأنتجه مانسميه الوطن العربي من ثقافات قديمة، رغم أنّ المنصفين من علماء العالم يشيدون بتلك الإنجازات الفكريّة، والماديّة، وبعضهم ترك مؤلّفات قيّمة في هذا المجال، ومازالت المكتشفات الأثريّة تفتح من تلك الصفحات مايُدهش، وهؤلاء لايقطعون مع هذه المساحة فقط بل ومع جميع ثقافات العالم الأخرى، القديمة والجديدة، فهم أبناء الزمن المسجون، المختَزَل، المقْفَل، ولو أنّهم اكتفوا بأنّهم يرون ذلك، وتركوا للآخرين أن تكون لهم رؤاهم الأخرى لهان الأمر، بل هم أشبه شيء بالوباء، إمّا أن تقول بمقولاتهم، وتنصاع لهم، وإمّا أن يكون دمك مُباحاً، وهم أيضاَ بذلك لايُقفلون الأفكار، بل والأزمنة ذاتها، لتجيء صالحة لحمل رؤاهم لاغير، ومن الفاجع أن يكون معظم ذلك منصبّاً على مظاهر تأخذ شكل الطّقس من تطويل للّحى، وتقصير للثّوب، وعدم الاستشفاع حتى بالنبيّ الكريم (ص)، وعدم زيارة القبور والأضرحة، وكأنّ الإنسان وُلد ليُجيد الطّاعة العمياء، لا ليحرث في بستان اللّه، ويتأمّل في ملكوته، وليرتفع إلى مستوى أن يكون خليفة في الأرض،
هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّهم يقطعون، ثقافيّاً، مع العصر، فهم في حالة انفصام زمانيّة، يرفضون القديم الموغل، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أنّ في تلك الثقافات مايغني، ومايفيد معرفيّاً، فهم غير معنيّين بهذه الآفاق، فآفاقهم محدَّدة، مؤطّرة، يُقبَل فيها مايُغنيها، ويزيد من ترسيخها، ويُنفى كلّ مايتعارض معها، وثمّة قطع آخر مع الثقافات المعاصرة، فهم يتعاملون مع منتجات هذا العصر الحديثة، ومخترعاته، من الخلاّطة الكهربائيّة حتى الطائرة النّفّاثة، وتمتليء بيوتهم بالأدوات الحديثة، ولكنّهم يرفضون فكرة مناقشة ماأنتجته العصور الحديثة من أفكار، لأنّها كلّها ضالَّة مُضِلّة، وأقصى مايمكن أن يتقاطعوا معه أن يعمدوا إلى أفكار، ورؤى، لأناس (كفّار) ولكنّهم نطقوا بالحقّ، فجاءت بعض أقوالهم مؤيّدة لما هم عليه، وبذا يسيّجون أنفسهم تسييجاً صارماً، طالبين من الآخرين أن يزحفوا باتّجاههم لأنّ بوّاباتهم وحدها توصل إلى منافذ النّجاة، وهذا متعارض مع منطق الحياة التي عاشها أجدادنا وعشناها نحن، وستعيشها الأجيال التّالية، إنّه الجمود العنيد، والزعم بامتلاك الحقيقة، وأنّهم وحدهم «الفرقة النّاجية»، والآخرون إلى سعير جهنّم!!
-4-
قد يلفت الانتباه أنّ بين هؤلاء التّكفيريّين الوهّابيين أطبّاء ومهندسين وصيادلة وفيزيائيّين، ومدرّسي لغات أجنبيّة، وحملة شهادات علميّة عالية، وهم من عتاة التّكفير، وهذا يوحي بأنّ ثمّة تناقضاً بين معاصرة الشهادة المحمولة وما هم عليه من الضّيق الفكري، وهنا لابدّ من ملاحظة أنّ الأمر مرتبط بمنظومة الرؤية الفكريّة التي هم عليها، فهذه، عندهم علوم دنيويّة، يمكن الاستفادة منها، أمّا الجسر الذي يوصلهم إلى نعيم الآخرة الأبديّ، فهي تلك المنظومة التي يؤمنون بها، وهذا يدلّ على أنّ العلوم العصريّة لاتستطيع وحدها أن تأخذ النّاس إلى رحابات التأمّل، والتفكّر، لا لعجز في تلك العلوم، بل لأنّ متعلّمها لايريد أن يخرج من تلك السّراديب، فهي طريق، ربّما، لكسب العيش ليس أكثر، أمّا ما يأخذ إلى جنان الرّحمن فشيء آخر، ويبلغ التّطرّف الأعمى مداه، حين لايَقبل التّكفيريّ أيّاً من المذاهب الأخرى، من الدّين الذي (وُلِد) عليه، ولا أقول الذي ينتمي إليه، لأنّنا في الانتماء نتشابه تشابهاً عجيباً، فكلّنا، ممّن ينضوي تحت هذا اللّواء، ننتمي إلى الأديان والمذاهب التي ورثناها من آبائنا، دون تمحيص، ودون اختيار، بل وربّما دون تدقيق،
-5-
إنّ طبيعة المعركة التي اعتمدت قتل الآخر تفرض على جميع القوى الوطنيّة، القادرة، والفاعلة، أن يكون في أسس برامجها، ونشاطاتها فضح هذا الفكر، لأنّ الفكر العاتم يُحارَب بالفكر النيّر، وتلك مسؤوليّة جميع القوى الوطنيّة الماثلة، أو التي ستثبت حضورها على السّاحة، لأنّ إعطاء أيّ فرصة لحضور هذا الفكر هو مغامرة خطيرة،
قد يأتينا مَن يقول إنّ هذه خطوة اجتثاثيّة لاتنسجم مع الرّوح الديموقراطيّة، التّعدّديّة التي نأمل أن تجد في سوريّة مايدعم نموّها واكتمالها، ونحن نقول إنّ طرد الأفكار التّكفيريّة، بالأفكار، هو واجب وطنيّ، لأنّ خطورة التّكفير القاصر، الحاقد، لاتقلّ عن وجود الأوبئة التي لاتُعالَج إلاّ بالاستئصال.
aaalnaem@gmail.com