هذا ما يراه الطبيب الأديب والشاعر نزار بني المرجة، فهو إذ يخفف آلامهم، كذلك يبلسم جراح الروح، إذ يشكل بوح المريض لطبيبه فرصة للطبيب الأديب لسبر أعماق نماذج إنسانية مرسخة في كثير من الأحيان أن تكون محرضات أو محاور لأعمال أو نصوص إبداعية تكتسب روعتها من خلال مصداقيتها كونها مستمدة بشكل جزئي أو كلي من أرض الواقع، فممارسة مهنة الطب فرصة لرؤية ومشاهدة الموت والولادة، ونزف الجراح وسماع تأوهات المرضى ومعايشة الألم عن كثب لدرجة يصبح معها الطبيب بجملة أحاسيسه ومشاعره كإنسان غير قادر على الوقوف في منطقة الحياد.
فها هو ذا يبوح بمكنونات نفسه بكلمات هي ملاذ أحلامنا المشروعة ويريدها دائماً أن تتوهج في وجداننا وتحتل السطور.
وفي سطور مجموعته الشعرية (بوح) نزار الشاعر نزار بني المرجة بطريقته المتفردة في التعبير، وبأسلوبه الخاص في نسج عباراته الشعرية التي يعمل جاهداً فيها على النأي عن التقريرية والمباشرة والنمطية.. فهو شاعر يبحث عن التجديد دائماً، هذا ما تدل عليه نصوصه المبنية على التفعيلة والنصوص النثرية، ولكنه حين يكتب على نظام الشطرين يبقى في حقل التقليد كما في قصيدته(شهباء) التي لم تنج من ترسبات القصيدة الكلاسيكية من استخدام للتراكيب الجاهزة التي لم يعتد على استخدامها في قصائد التفعيلة، ففي قوله:
كم كان ما أحلاه من عمر الفتى
فالماء منها كوثر ورضاب
تقليدية ظاهرة وطاغية وتفتقر الى الجدة والابتكار، ويضيق بنا المجال إذا حاولنا الإلمام بملامح تجربته الشعرية، ذلك أن هذه النصوص تعبير صادق عن تجربته في أنماط القصيدة الثلاثة (الكلاسيكية والتفعيلة وقصيدة النثر) ويبقى الشاعر من فرسان الشعر على المساحة الأدبية وله بصمته الفنية المتميزة من حيث أوزان القصائد تراوح بين الموازنة على البحور الشعرية، والقصائد النثرية المنفلتة من خيوط التفعيلات، وفي كلا النمطين تظهر شاعريته متدفقة بالإيقاعات الوجدانية المنضبطة.
ففي قصيدته (عرس لمجدل شمس) يلتقي الإيقاع المنبعث عن تفعيلات( الكامل) مع إيقاعات نفسه المنفعلة لحظة المعاناة. يقول مجسداً وحدة التراب
الشمس ما غابت هنا
الشمس ما غابت هناك
تأتي كمجدل شمس
هي رحلة الألم الطويل ورحلة الأمل الكبير والقصيدة لوحة وطنية ومشهد رائع لعرس أقيم في مجدل شمس حيث تزف المناضلة إلهام أبو صالح.
وفي نصوصه الفنية النثرية تتألق أيضاً قدرته الشعرية وتعامله الفائق مع اللغة المجازية التي تحفل بالاستعارات المكنية التي يجسد فيها الشاعر الجمادات ويبث في أوصالها الحياة والحركة لينقذها من مادتها إلى أفقها الشعري المشتعل، ومن استعاراته قوله/ كيف اطمأنت النار للماء /ص103 .
ويميل الشاعر إلى استخدام الرموز الشفيفة غير المغرقة في الغموض حيث يشبه العدو إسرائيل ببومة تترصد أطفالنا لتقتل ضحكاتهم قبل أن يكبروا ويصبحوا رجالاً يتصدون لأساليبها الإرهابية فيقول:/ البومة خلف النظارة تبتكر مشاريع إبادة.. تحفر أنهاراً للحزن على وجنات الأطفال /ص61.
وفي نصوص يتجلى التفاؤل والاعتماد على التكثيف وتشذيب النص من العبارات الزائدة . يقول في قصيدته / لا يذبل الورد في القصف/ يقول: ياامرأة من الماء كيف انتبهت إلى ظمأ الشجيرات وكيف خشيت الذبول للورد، والورد لا يذبل في القصف/ وكيف اكتشفت بأن الدم والورد يكفيان لتبقى المدينة!!.. كيف اكتشفت بأن الدروب ستسلك الآن خضراء خضراء.. رغم القنابل.. خضراء.. خضراء.. رغم الحصار؟
وهكذا نرى أن الشاعر يسلك في جلّ قصائده منحى وطنياً لا يحيد عنه إلا قليلاً.
الكتاب: بوح /قصائد مختارة - الكاتب: د. نزار بني المرجة/2011