«ها قد جاءت امرأة خارقة». ووصفها أندريه بروتون - زعيم السورياليين، بـ «المرأة الخالدة». وكان الشاعر بول إيلوار زوجها لمدة من الزمن، وكان يسميها (زوجتي مدى الدهر)، وهي تسميه (زوجي مدى الدهر)، ولكنهما انفصلا، وبقيا يحتفظان بالتسمية المشتركة، وعاشا أشبه بزوجين عاشقين متيم أحدهما بالآخر، رغم عدم اللقاء.
هي (غالا) المرأة الروسية الفاتنة، التي وقع في غرامها طاقم من السورياليين الكبار. تزوجت بول إيلوار، ورزقا بابنتهما الوحيدة سيسيل عام 1918، التي نشرت رسائلهما المتبادلة بعد وفاة والدتها غالا عام 1982.
يقول إيلوار بعد انفصالهما:
بدونك على هذه الأرض
بدون كل ما جمعنا.. لا يوجد شيء
لقد اختصر العالم عند إيلوار في غالا، ولا وجود لشيء، ولا معنى للوجود أصلاً بدون هذه الفاتنة الساحرة: ربة وجوده.
هي (غالا) الفريدة بين نساء الأرض بالنسبة إلى السورياليين الفريدين أيضاً بأفكارهم. (غالا) هي الكون الحساس، الشهواني، حيث يتألق كل جمال «حيث العالم، كل العام، يصبح جمالاً، وكل الجمال يظهر..» هي التي جعلت حبيبها إيلوار يئن تحت وطأة الحب الصاعق الساحق: «إنني أعبدك يا شمسي.. أنتِ لي إلى الأبد».
اشتهر إيلوار، بوصفه أحد شعراء الحب الكبار عبر العصور، وشبه بمجنون ليلى. أما (غالا) فكانت المرأة/ الحورية التي دفعته إلى الجنون، وأحبته، ولكنها تركته ورحلت. إنها معادلة صعبة فعلاً: غالا تترك إيلوار لأجل الثراء الذي يعرضه عليها سلفادور دالي، وتؤكد في الوقت نفسه أنها تحبه حتى الموت: «إذا أضعتك أضعتُ نفسي، فلا أعود غالا. أنا ملكك وأنت تملكني كلية. أعطيك حياتي كلها لأجل أن تكون راضياً».
يظهر من هوس الشعراء بها أنها كانت فريدة فعلاً، ولكن لم يقل لنا أحد منهم تلك الصفات التي جعلتها سيدتهم المعشوقة. لقد أبقوا على سحرها سراً بينهم. إنها التي وضعتهم في قلب العالم، وفتحت عيونهم على وجود آخر، وكما يقول إيلوار:
شاهدت أجمل عيون في العالم
إلهة من فضة تمسك ياقوتاً بيديها
إلهة حقيقية
عصافير في الأرض وفي الماء.. لقد رأيتها
صرف إيلوار - الشاعر الفريد - حياته كلها في هاجس امرأة واحدة (غالا)، وأنفق عمره حتى وفاته وهو يحاول استعادة لحظاته معها بأجمل ما يكون من شعر. يحاول أن يعيد نفسه إلى تلك الأوقات التي كانا فيها معاً، ويخلق منها عالمه الجديد الذي يضع (غالا) فيه كي لا يموت بدونها. إنه تقمص وجودي سوريالي يمنح الشاعر العاشق إمكانية إعادة خلق عالم الحب/ الألم في حلة جديدة فائقة الحساسية:
كيف سيكون بمقدورنا
أن نفكر منفصلين
نحن الذين كنا نقضي نهاراتنا
وليالينا حالمين
عاشقين لزمن مشترك
عاشقين لجسد توأم
يتوحد إيلوار مع (غالا) ويغدو من الصعب فك هذا الاتحاد:
أفتش عنك عبر الانتظار
عبر نفسي
ولا أعود أعرف
لشدة ما أحبك
أيّنا الغائب
يا لجمال هذا الحب، ويا لقدسيته! إن البعد جعله لا يؤمن بالحياة، بل يؤمن بها (الزوجة مدى الدهر). يؤمن بالموت، الذي يعترف أنه لا يمكنه أن يدخله إلا برفقتها، وكل ما تبقى له بدونها لم يعد سوى بؤس عظيم.
رغم زواج غالا من سلفادور دالي، بقيت تحب إيلوار، وكان غريباً أن نقرأ في رسائلها وهي تسأل إيلوار لماذا خفّ حبه لها وقلّ اهتمامه بها؟ فيجيبها إيلوار بأنها ستبقى الوحيدة في حياته للأبد.
رحل بول إيلوار عام 1952، ورحلت غالا بعده بثلاثين عاماً، ونشرت رسائلهما المتبادلة، لتغدو إحدى أجمل الوثائق على قصة حب غامضة، ساحقة، وخالدة.