لكن معظم هذا الجدل كان ينصب حول آليات التواصل مع الكتاب وحول قدرة الكتاب المطبوع في شكله التقليدي على منافسة النص الإلكتروني بحيث يتمكن من البقاء كحامل المعرفة الأساسي. وفي سياق هذا الجدل كانت القضية تطرح على أنها مشكلة تقنية بحتة لا تتعلق بمضمون الكتاب ذاته وبالحقل المعرفي الذي يعالجه. وفي حقيقة الأمر كانت مشكلة الكتاب بعد ثورة النص الإلكتروني مشكلة ذات بعدين. فمن ناحية أولى، أدى الانتشار الكبير لوسائط التبادل المعلوماتي إلى إنتشار النص الإلكتروني بشكل كبير، وهذا ما أدى إلى توظيف النص كأداة معرفية لا يمكن تجاهلها. ولكن النصوص الإلكترونية بمختلف أشكالها كانت شائعة في الفضاء العام واقترنت بميولها إلى المضامين السهلة وغير العميقة أو المعقدة. وهذا ما أدى إلى شيوع فكرة أن النصوص الإلكترونية هي حقل مخصص للمعرفة البسيطة والسهلة.
وفي هذا السياق تطور الكتاب الإلكتروني في مجمل حقول وميادين المعرفة، مثله مثل الكتاب المطبوع. لكن فكرة اقتران النشر الإلكترونية بقيت مقترنة في المخيلة العامة بالسهولة وبتجنب العمق والتعقيد الذي بقي من صفات الكتاب المطبوع بكل ما يمتلكه من تاريخ عريق ارتبط بتطور الحياة الفكرية للإنسان. أما الناحية الثانية فيما يتعلق بمشكلة الكتاب فهي أن هناك تراجعاً عاماً في مستوى الجدية والشجاعة والعمق الذي ميز عبر حقبات طويلة تقاليد النشر التقليدي. فمنذ فترة أصبح من الواضح أن معظم الناشرين يتجنبون مغامرة نشر كتب معقدة صعبة القراءة تحتوي على مضمون فلسفي أو علمي يحتاج إلى جهد كبير في القراءة. لقد اقترنت المحطات الفارقة في تاريخ تطور الحضارة الانسانية الحديثة بظهور كتب معقدة شكلت تحدياً للقارئ. فهل نعيش اليوم عصراً انتهت فيه الحاجة للكتب الصعبة والمثيرة للأسئلة الكبرى؟!
في عام 1943 نشرت جامعة إيلونوي كتاب «النظرية الرياضية للتواصل» للمفكر كلود شانن. كان هذا الكتاب وقتها بمثابة ثورة معرفية لم يتضح أثرها الكامل على الثقافة والفكر إلا بعد عقود. لقد كان كتاب شانن هذا أساساً لثورة التواصل والمعلوماتية فيما بعد. وكان دور الجامعة في نشر كتاب معمق كهذا حاسماً في توفير المعرفة القادرة على تغيير مصير الإنسان. واليوم يعود التساؤل حول دور الجامعات في تحمل عبء المغامرة في نشر كتب لا تمتلك أي حظ بالنجاح التجاري. يعود التساؤل اليوم لأن الجامعات ذاتها دخلت في نقاش جديد حول إمكانية الاستمرار في تحمل هذا العبء من الناحية الاقتصادية، خصوصاً أن مؤسسات النشر الجامعية لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عن التحديات الاقتصادية الناجمة عن مهمة صعبة تتجلى في نوعية الكتب المناسبة من ناحية، وعن الكلفة الاقتصادية المرتفعة للنشر التخصصي من ناحية أخرى.
لقد أصبح القلق حول مستقبل النشر الجدي مشروعاً بعد أن بدأت كمية الكتب المثيرة للجدل تقل بشكل مضطرد. ويتساءل العديدون هل ما الجامعات تتجرأ على نشر وتسويق كتب من مثل “النظرية النسبية” لألبرت أينشتاين، “أسس الاقتصاد” لبول سامويلسون، “نظرية في العدالة” لجون رولس و “النظرية الأدبية” لتيري إيغلتون؟! إن مهمة نشر كتب كهذه لم تعد ناتجاً طبيعياً للحركة الثقافية والفكرية، بل أن هذه المهمة أصبحت بمثابة المشروع الحيوي الذي يحتاج إلى استراتيجيات وتمويل إقتصادي لا تستطيع تحمله سوى مؤسسات كبيرة معنية بإعادة الكتاب إلى جذوره الأصلية، أي إلى فضاء الجدل الفكري والمعرفي المعمق. ومن الحيوي أن تمتلك هذه المؤسسات مشروعاً تنويرياً ينظر إلى القارئ ليس باعتباره مستهلكاً لسلعة إقتصادية، بل باعتباره مشاركاً في حالة ديمقراطية من إنتاج المعرفة.
لكن القارئ في عصرنا الحاضر يخضع لشروط معقدة ناتجة عن آليات الإعلام والتسويق الجديدة التي أصبحت تسيطر على خياراته وذائقته بشكل قسري. فالقارئ اليوم أصبح نتيجة الاقتصاد المعاصر يرتبط بشبكة معقدة من المؤسسات الوسيطة التي تربطه بالكتاب. لم تعد العلاقة مع الكتاب مباشرة وبسيطة كما كان الحال في الماضي، بل أصبحت تمر عبر قنوات ثقافية واقتصادية وسياسية ترتدي كلها أقنعة ملونة وبراقة. وتتجلى أخطر هذه الأقنعة في آليات التسويق التي تمارسها كبريات مؤسسات النشر والتوزيع والصحافة الثقافية. وفي ظل هذه العوامل لم يعد من المؤكد أبداً أن هذا القارئ يمتلك بالفعل حرية الاختيار والقراءة. وفي مناسبات عديدة تنبه العديدون إلى أن الحرية الفردية التي كانت في زمن مضى أحد أسس عملية القراءة لم تعد موجودة إلا فيما يتعلق بكون الفرد مستهلكاً لسلعة في فضاء إقتصادي مفتوح.
أما فيما يتعلق بمؤسسات النشر التجارية التي تمتلك بالطبع حقاً مشروعاً بالربح، فإن المسألة تبدو أكثر تعقيداً. ذلك أن المحتوى الثقافي لأي مشروع لا يمكن تحديده إلا من خلال جدواه الاقتصادية. وهكذا فإن الكتاب أصبح اليوم مرتبطاً بشكل غير مسبوق بالعوامل الاقتصادية التي تحدد وفق معيار الجدوى مضمون الكتاب وموضوعه. لذلك، فإن الكتاب اليوم مرتبط بشكل عميق بالحيوية الثقافية للمجتمع.
عن مجلة كرونيكال ريفيو الأمريكية.