الهزيمة أعني هزيمة 1967، تلك الهزيمة صفعت جبلي فأدمته حين حطمت الأحلام والأماني عن دولة العزة والقوة والوحدة العربية، وأنا كنت إبان تلك الحرب في مصر، فلم أصدق، وكنت أجيب الأصدقاء من حولي: لا، فمصر لم تستخدم ثقلها العسكري بعد، لم تستخدم صاروخي القاهر والظافر بعد، ومن يذكر تلك الأيام يذكر كم كان حلم هذين النوعين من الصواريخ يعابث أحلام أحفاد خالد بن الوليد بالقوة.
المهم. هذه الهزيمة كانت صدمة للحالمين من العرب، ولكنها لم تكن صدمة للمخططين الغربيين، والذين سموها (حملة 1967)بحملة البحرين وذلك رداً على خطاب عبد الناصر الذي أعلن فيه أنَّ من لم يعجبه البحر الأبيض فبإمكانه أن يشرب البحر الأحمر تبريداً لغيظه، وكانت هزيمة 1967 حلقة من حلقات مؤامرة طويلة لتدمير العالم العربي وتحويله إلى ما نراه اليوم.
وحين أعلن أدونيس عقب تلك الهزيمة المرّوعة أنّ الأمة العربية أمة تنقرض، أخذنا كلامه على محمل تهاويل الشعراء وانفعالاتهم المبالغ فيها دائماً. وعلينا أن لا ننسى أنّ أدونيس في ذلك الحين كان في أواخر الثلاثينات، أي أنه كان في عز شبابه الذي انقصفت أحلامه كما انقصفت أحلامنا معه بتلك الهزيمة، ولكن، وحين يعيد قولها وبعد أربعين سنة ونيّف وهو المثقف الذي كنا نراه بعين كونية، فهو من غادر الضيعة، وصار متروبولياً، وصار يرى العالم والتاريخ والتداعيات والانتصارات والهزائم ليس بعين ابن الضيعة الذي لا يعرف في العالم إلا ضيعته، فهذا، وأرجو أن يسمح لي أدونيس بقولها غير مقبول من مفكر شغل اللغة العربية للعقود الأربعة السابقة فالأمة العربية لها تعبيران، تعبير أطلقه التنويريون منذ القرن التاسع عشر الذين بحثوا عن هوية بعد اتضاح اضمحلال الهوية العثمانية وقرب زوالها، فافترضوا أنّا أمة عربية، ثم بحثوا عن جذور لهذه الأمة، فوجدوها في الأمويين والعباسيين، فقالوا إنّا أحفاد أولئك الأقوام، ونحن استمرار لهم، ولنا الحق في هوية حملوها يوماً ونريد حملها اليوم، وهذا نظرياً شديد الجمال، ولكنه ينطوي على انتقائية لا يقبلها التاريخ الواقعي، فهذه الأمة التي أجدادها أمويون وعباسيون قد توقفت عن الوجود السياسي منذ منتصف القرن العباسي فالمأمون أخرجها (الأمة العربية) من ديوان الكتابة أي الوظائف الإدارية الكبرى للدولة، وجاء بالفرس من أخواله فاستلموا إدارة الدولة، أما أخوه المعتصم، فقد أخرج العرب من ديوان الجند أي الجيش ووزارة الدفاع والمقاتلة العاديين، الجند، وجاء بالترك من أخواله فحلوا محل العرب.
دفع العرب خارج نظام الدولة، فعاد الجزيريون (جزيرة العرب) منهم إلى البداوة العمياء، وعاد المدينيون منهم إلى المهن الصغرى يعتاشون منها وبهذا توقفت تلك المغامرة الهائلة في إعادة الحضارة المشرقية إلى زهوها أيام المقدونيين، إلى القبول الكامل للتعددية الدينية واللغوية والعرقية، فأثمرت المنطقة أعظم عقولها في ذلك الزمن الذي أسموه بالهيلينية الشرقية، تقبل الإسلام الحضارات السابقة كلها زمن الأمويين ثم العباسيين، تقبّل الفلسفات والقراءات والأفكار، فكانت المعجزة المسماة بالعربية الإسلامية ثم... جاء البدو الرعاة من الترك على تسمياتهم المختلفة، ففعلوا بالحضارة العربية ما فعله النيجريون حين تبنوا اللغة الانكليزية فانخفضت المفردات الانكليزية المستخدمة من عدة آلاف إلى ثلاث مئة مفردة هي ما يحتاجه المستوى الاجتماعي في نيجيريا عقب الاستقلال، فاختصروا النحو الانكليزي مثلاً من I am going hom إلى Us go hom وهذا ما كان النيجيريون في حاجة إليه من النحو الانكليزي فقط.
السلاجقة فعلوا الأمر نفسه حين حرّموا الجدل، وحرّموا المناظرات الفكرية، وحرّموا اقدح الزند بالزند من الحضارة العربية الإسلامية، وأعتقد أنّ الحضارة العربية قد توقفت منذ ذلك الحين ولن أقول قد انقرضت، أما ما نعيشه الآن فهو حضارة وليدة لا رابطة كبيرة بينها وبين العباسين إلا ادعاؤنا بالقربى مع تلك الحضارة المنحورة.
هذه الحضارة ولدت في القرن التاسع عشر فهي حضارة ما تزال تتلمس طريقها، صحيح أن التلمس طال أكثر مما يجب وأكثر ممّا فعل اليابانيون والصينيون، ولكنّ المؤامرات التي تتعرض لها حضارتنا وتعرضت منذ عام 1827 أي منذ معركة نافارون التي وضعت الحد لطموحات إبراهيم باشا الذي حلم بقيامة العالم العربي، وهذه المؤامرات ما تزال مستمرة.
أنا أعرف أنّ أكبر المتآمرين على العربية هم العرب أنفسهم ولكنه، مأزقنا الوجودي.....الأمة الضحية تستحق بعض الرعاية فهذا خير من دفعها إلى القبر وإهالة التراب عليها، ثم......الضياع.