كان يقول : في حالة الخلود لاوجود للزمن . وهو يقول ذلك من يقينه التام بأنه والخلود توأمان لاينفصلان . وهنا كان الإشكال بينه وبين زوجته . كانت تصغره بنحو عشر سنوات لكنها دائما تعترف بواقعية مذهلة أنها تحت سطوة الزمن لاتفعل سوى الخضوع ، والقبول ورفع الراية البيضاء.هو كان على العكس ، يجادل ويقارع و يكابر وينكر المرض والشيخوخة معا ، بالكلام ، ولأنه في قعر قناعتها استقر ساحر ( كلمة ) من غير نقاش ،أما هي فكانت المرأة التي تقف وراء النجم ، حتى إن بخل عليها بحزمة من ضيائه . كانت تصفه قبل ان يقترنا وقبل ان ينجبا وقبل ان يزوجا إبنيهما وابنتهما ، وقبل أن يتعمد نسيان أن ثمة مرآة ويجب عليه الوقوف أمامها كل صباح لكي ( يحلق ) ولكي يقرأ أين صارت تضاريس وأفعال الزمان .. قبل ذلك وسواه وربما بعده أيضا .ولعل أشد ما كان يدهشها فيه هو إصراره على عدم الإكتراث بما يفعله الزمن بشعر رأسه ، كان فقط يترك الشعر يطول على بياض هو كما قمة جبل جليدي ، ولكنه كان لا يسمح للشعر الأشيب بأن يكسو المنطقة بين شفته العليا وانفه .كان يحلق شاربيه يوميا .كان يحلق ويغسل وجهه بصورة آلية، ويتعطر كما هي عادته منذ بلغ السادسة عشرة من العمر . صحيح انه الآن يفتح عينيه ويتابع آلة الحلاقة لكي يتأكد أنها تقوم بما عليها من واجب اجتثاث الشعرالأبيض في عموم الوجه ، إلا أنه لم يكن ليسمح لعينيه بالغوص إلى ما هو أبعد او بتجاوز الحدود التي وضعها هو لهما .
يخرج إلى سهرة بسيارته القديمة الأثيرة ويدعو زوجته لتشاركه وهو يعرف أنها ستعتذر. فتعتذر :
- أنت لا تعترف بالزمن ، أنا امرأة عجوز – لذا أفضل ألاّ أحرجك أمام زملائك فأغفو قدام عيونهم قبل أن تبلغ العاشرة مساء وفي مكان عام .
كان يجد في موقفها ما يشجعه على مواصلة حياته وكأنه عازب حتى الساعة و من دون تغيير يذكر ، ففي الخارج هو النجم ، هو الشاب ، هو الذي يسحر النساء الصغيرات الطامحات إلى موقع في عالم النجومية . كان كريما عليهن بالوعود ، وكان يحمل كل حلم من أحلامهن ويحلق به معهن إلى ما شئن . كن لا يجدن كثير حرج حين يشعرن بأن يدا من يديه تعدت حدودها المتاحة وراحت تفتش عن تضاريس معقولة وطرقات مفتوحة ، او تتوقف لتتحسس أحد هذه التضاريس ، ومن ثم تكون عيناه قد غاصتا في عيني السيدة – أكانت صبية أم كانت ناضجة ونضرة ، لقراءة رد الفعل . فإن وجد الغضب ، بادر إلى سحب يده و الإعتذار بلباقة ::
عفوا سيدتي الجميلة ، فقدت السيطرة على يدي ، خضعت لأوامر المركز وقد تجاوزت اليد حتى على إرادتي الشخصية1.
فيجد أحيانا رد فعل لم يتوقعه :
هذا ما يمنحني الإحساس بأنني امرأة جذابة و مرغوبة .. وقد تمكنت من إذابة صلابة رجل له تجاربه التي لا تعد ولا تحصى .
- أنت تبالغين بالحديث عن تجاربي .
أبدا .. كلنا نسمع عن تجاربك التي عاندت الزمن وانتصرت عليه .
تكون تلك عملية فتح بائنة للباب على مصراعيه أمامه لكي يدخل ولكي تقرأ السيدة ما تعنيها كلماته من مشاعر نحوها في مقالاته – التي تنشرها عدة صحف .بل أكثر من ذلك كان يتمادي فيطلب منها السماح له بأن ينشر قصيدة عنها مهداة إلى جدائل شعرها أو إلى سعة عينيها وقدرتهما على اختراق الجلمود وقهر جبال الصوان حين تحفان به.
أشغلته مؤخرا امرأة قال عنها ( إنها خاصة . إنها مذهلة في قدرتها على أن تضع حدا حتى لكل وقاحاتك وصبيانياتك ، وولدناتك ) وهي – يقول : موعد مع نجم ساطع ، وأنا من سيطلقها في الفضاء الرحب ، ومن يجعل الآخرين يرونها ويتمنون دفء ضيائها ، لتأخذ مكانتها التي أرى أنها تستحقها .كان على موعد ثان معها ، وانتظر على نار أن يحين الوقت .. لكن سيارته – في تلك الليلة – وقبيل الموعد المحدد بساعتين حرنت ، ولم تطع أيا من أوامره . فما كان منه إلا اختيار تجنب الصراع معها وخرج يطلب واسطة نقل إلى حيث مكان الموعد . كان في الوقت متسع ، فلماذا لاينتقل مثل الملايين بالسيارات العامة ؟ الحافلات تتوقف قدام ( المقهى ) حيث الموعد ، ولما كان في غير عجلة فلا بأس من ( مشاطرة الناس في معاناتهم ).
الحافلة الخضراء تتهادي من بعيد ، انتظرها ، وتهيأ لكي يشير إليها حتى تنقله إلى حيث يخبط قلبه كأنه المراهق من جديد . فتعجب أن السائق توقف بالحافلة أمامه مباشرة. صعد ، وهو يشعر للمرة الأولى من زمن بأن ركبتيه في حالة غير اعتيادية . ارجع السبب لارتفاع سلم الحافلة .نقد السائق مبلغ عشر ليرات ، فناوله السائق التذكرة ، فقرأ لافتة تملي على الراكب ما يفعله ( اقطع التذكرة من الطرفين للشخص الواحد ) . في اللحظة التي أتم فيها قطع التذكرة ، كان يستمع لصوت رجل :
- تفضل يا حاج .
لكنه لم يحرك ساكنا لأنه ما كان يظن انه المعني بالنداء.و لما لم يكن هناك مقعد شاغر فلقد بادر إلى القبض على أحد الأعمدة في الحافلة وليقضها واقفا . لكنه تنبه مرة أخرى إلى أن شابا كان قد نهض من مقعده وهو يكرر نداءه الموجه إليه :
- تفضل يا حاج .
كان عليه أن يجلس وسط دهشته من وصف الشاب له على انه ( حاج ) ، لكن توقف الحافلة المفاجئ كاد أن يطيح به ، فاكتشف عدم ثبات رجليه في حالة الوقوف في الحافلة . فشكر الشاب وراح يجلس في مقعده . كانت التذكرة ماتزال بين أصابعه يعابثها دون قصد وهو منهمك في محاولة تفسيرسر تصرف الشاب فقال في نفسه : ربما هو أحد المعجبين بي ، أو ربما شاهدني في مقابلة تلفازية . كان لما يزل يقلب التذكرة لتتوقف عيناه عند كلمات مطبوعة في ظهرها :( احترم العجزة والمسنين وافسح المجال لهم بالجلوس على المقاعد ) .
تساءل : لماذا لم يكتبوا إفسح المجال أمام السيدات كما كنا نحن نفعل أيام زمان ؟ بيد أن شعورا غامضا غير مريح عاد يغمره :احترم العجزة والمسنين . لست عاجزا . فإذن أنا مسن .
كانت الحافلة تتوقف لتلتقط عددا من الناس . دخلت سيدة متوسطة العمر ، وهي تحمل كيسا مملوءا بالخبز ، فنهض من مكانه وهو يقول :
تفضلي مدام .
بيد أن صوتا قويا كان قد اخترق بسرعة أجواء الحافلة :
ابق في مكانك ياحاج ، تفضلي إجلسي مدام .
صعق تماما . ولم يكن متأكدا إن كان هو المقصود بلفظة (ياحاج) أم سواه ، لكنه ظل قاعدا يجتاحه إحساس بثقل في تنفسه ، وبضيق في صدره . كان ثمة وجه النجمة من بعيد يرنو إليه ، لكنه شعر بتخاذل ركبتيه وبتعب شديد . فأغمض عينيه على صورة وجه باسم لا أثر لتجاعيد الزمن في أي جزء منه ، وجه ينثّ في النفوس نشوة الديمومة والعافية ، وليس يدري لماذا انتقل فورا إلى وجه زوجته ليكتشف أنها شاخت وكبرت وهي أصغر منه بأكثر من عشر سنوات . ألا يجدر بي أن اقرأ الزمن في وجهي غدا حين احلق ذقني ؟
كان يدرك ان الموعد أزف وان الحافلة تجاوزت المقهى ، لكنه فضل البقاء في مقعده وقد أغمض عينيه ، وراح يحلم بأول مرة نهض فيها من مكانه في ( حافلة نقل الركاب ) ليجلس شابة من جيرانهم في مكانه ويبقى هو واقفا ولكن بثبات ومن دون ان يتشبث بعمود او بلاقطة جلدية مثبتة مع سواها في عمود معدني ممتد من بداية الحافلة حتى نهايتها .. وتساءل متى حدث ذلك ؟ ربما قبل أكثر من ستين عاما .
أخذه الخدر فغاب عن الزمن . أفرغت الحافلة من فيها من الركاب في آخر موقف السائق لهالكنها لم تفرغ تماما، فلقد دهش حين وجد شيخا كبيرا مغمض العينين في مقعده وطيف ابتسامة يتهادى على شفتيه ،لكنه ما كان استجاب لنداء أو تساؤل . أقسم السائق أن الرجل كان نائما . وأقسم آخر من رآه أنه سمعه يضحك .