فالحياة بداية ونهاية: بداية تبدأ بالدمع وتنتهي بالدمع أيضاً. هكذا هو العمر، عمر الإنسان والحيوان والنبات والأشياء: طفولة، يفاعة، شباب، شيخوخة، كهولة ... ثم رحيل أبدي. النعمة الكبرى التي يتفرد بها الإنسان هي أن حقيقة هذا الرحيل القادم لا محالة، ينساها أو يتناساها في غمرة انشغالاته بأمور العيش وتفاصيل الحياة اليوميّة، وإلا سكنه اليأس والإحباط، وقعد ينتظر بتبرم هذه النهاية...
مع ذلك، حلم الإنسان بالخلود، واشتغل ولا زال على هذا الحلم. فقد تحدثت أساطير الشعوب ومعتقداتها عنه، وعالجت فنونها وآدابها حيثيات تحقيقه، وبعضهم (كالفراعنة) وفروا متطلبات رحلة العودة إلى الحياة الدائمة والخالدة، عندما أنزلوا مع الميت حاجاته ولوازمه، وحاولوا المحافظة على جسده الذي سيعود لاستقبال الروح مرة ثانية. وبخط موازٍ، حاول الإنسان المحافظة على أشيائه العزيزة على قلبه، أو التي تُشكّل له ثروة كبيرة طالما هي سليمة وصحيحة وقادرة على الاستمرار في الحياة، كالتحف والخزف والصناعات اليدويّة والأوابد الأثرية الفريدة والنادرة، إضافة إلى الأعمال الفنيّة المختلفة المواد والخامات والتقانات والأساليب والمضامين، فتراه دائم الرعاية لها، والعناية بها، وتوفير شروط حفظها من عوامل الجو، وتقادم السنين، وأذى العابثين، وطمع اللصوص.
وسائل الرعاية والحفظ
من أجل هذا، وُجدت صالات العرض المجهزة بمتطلبات حفظ التحف والأعمال الفنيّة، والحاضنة لشروط عرضها المثاليّة، ومن ثم، توفير وسائل حمايتها من أنواع الأذى والعطب والتخريب المحتملة كافة. وهذه الصالات لا يقتصر وجودها على القصور الفخمة، والمتاحف، ودور العرض، بل ويحرص الإنسان العادي، على توفيرها في مسكنه ومكان عمله، أو في أحسن الأحوال، توفير شروط العرض السليمة والصحيحة لها.
ولأن الزمن لا يرحم، والسنون لا بد أن يؤثر تقادمها على الإنسان وعلى أشيائه الحبيبة هذه، وُجد اختصاص جديد يتماهى فيه العلم بالفن، والمعرفة بالخبرة هو (ترميم الأعمال الفنيّة) الذي بدأت الدول توليه اهتماماً ملحوظاً، بإضافته (كاختصاص جديد مطلوب بإلحاح) إلى اختصاصات أكاديميات ومعاهد وكليات الفنون الجميلة والتطبيقيّة، أو إفراد كليات ومعاهد خاصة به، إضافة إلى اختصاصات أخرى مكملة له هي: طرائق حفظ الأعمال الفنيّة، سواء المعروضة للمشاهدة داخل المنشأة المعماريّة أو خارجها (على واجهاتها وجدرانها أو إلى جانبها)، أو المركونة بين جدران المخازن والمستودعات، حيث بات حفظ العمل الفني وتخزينه علماً قائماً بذاته، يرد على اختصاص ترميمه ويتكامل معه.
ميدان الترميم
يطول اختصاص ترميم الأعمال الفنيّة التشكيليّة كالرسوم واللوحات والتماثيل والمحفورات المطبوعة المنفذة بكافة المواد والتقانات والخامات الطبيعيّة والمواد المركبة والصنعيّة، إضافة إلى الفنون التطبيقيّة، والتحف والصناعات والحِرف اليدويّة. كما يطول المنشأة المعماريّة القديمة والحديثة، واللقى الأثرية المختلفة، فهذه الكنوز تحتاج (مثلها مثل أي شيء أخر من الحياة) إلى الرعاية والعناية والحفظ بعيداً عن شتى ضروب الخطر الذي يهددها بالعطب والتدمير، ذلك لأن مثل هذه الأعمال تشكّل ثروة حقيقة للشعوب والأمم.
قيمة حضاريّة وتاريخيّة
تكتنز الأعمال الفنيّة النادرة والثمينة، على جملة من القيم والمزايا. فهي فن رفيع، وجهد إنساني مُبتكر ونادر، وتأريخ لفترة ما، وقيمة حضاريّة كبيرة، ومصدر معرفي للعديد من الجوانب المتعلقة بمكان وزمان إنجازها، وتالياً هي وثيقة تعكس موهبة مبدعها وتُشير إلى تطور الشعب أو الأمة التي تنتمي إليها، لا سيما في المرحلة التي أُنجزت فيها، كما أن هذه الأعمال، تُشكّل ثروة وطنيّة وقوميّة بحد ذاتها، وتُساهم بتعزيز ميزانيّة دولها، إذا ما وُضعت في حيز الاستثمار السياحي المتقن والمدروس، فالسياحة الحديثة تعتمد اعتماداً أساسياً في استقدام السواح على مثل هذه الأعمال الفنيّة والأوابد الأثرية. فكلنا يعلم أن شهرة لوحة (ليوناردو دافنشي) المعروفة باسم (الجوكندا) أو (الموناليزا) هي التي تشد الناس لزيارة (لوفر باريس) والكنوز الأثرية في سورية ومصر والهند وغيرها، هي التي تجذب أفواج السياح إليها.
الترميم والحفظ
تتخذ عملية رعاية وحفظ الأعمال الفنيّة منحنيين اثنين: الأول: تأمين الجو المناسب لعرض العمل، وذلك بإبعاده قدر الإمكان عن العوامل الجويّة التي يمكن أن تؤثر عليه، أو تعطب جانباً منه، كالضوء الشديد، والرطوبة، والضجة، والحرارة، وعبث الإنسان. ولهذا تمنع غالبية صالات العرض والمتاحف، استخدام (الفلاش) في تصوير الأعمال الفنيّة الحساسة، وتقوم بتزويدها بأجهزة إنذار خاصة بالكشف عن الحرارة أو الرطوبة الزائدة، وبمحاولات السطو والسرقة، وتُبعد مصادر التلوث بأنواعه، عن هذه الصالات، لا سيما الجسور والأنفاق والطرقات السريعة وغيرها. والثاني: ترميم العمل الفني والرجوع إليه من حين لآخر، لفحصه ومعاينته وترميم ما انعطب فيه، على يد خبراء ملمين بهذا الاختصاص الجديد الذي يتطلب أن تتوافر فيهم إلى جانب الموهبة والاستعداد، الاهتمام والرغبة والخبرة الفنيّة والعلميّة، ذلك لأن الترميم يجمع بين خاصيّة (الفن) وخاصيّة (العلم) ويلزمه إلى جانب الموهبة، أدوات وأجهزة علميّة متطورة ومعقدة (لاسيما أجهزة التصوير بالأشعة المختلفة الأنواع)، إضافة إلى مواد كيميائيّة وأحبار وألوان ومواد لاصقة وأدوات عديدة، يجب أن تديرها وتقودها، يد دارسة وخبيرة ومسلحة بالموهبة. إذ يجب أن تتوفر في اختصاصي الترميم، حساسيّة الفنان وثقافته النظريّة والعلميّة، وحصافة العالِم وخبرته، إضافة إلى موسوعيّة المؤرخ الدارس لمراحل تطور الفن وتقاناته ومواده وأساليبه. كما يجب عليه، الإلمام بتاريخ العمل الفني الخاضع للترميم، وتجربة مبدعه وخصائصها وكل ما يحيط بها من ظروف اجتماعيّة ومكانيّة وزمانيّة. فالإبداع عملية معقدة، مرتبطة بشخصية وحياة وتجربة صاحبها، وبالمواد والخامات والتقانات المستخدمة فيها، وبالأسلوب الذي يتبعه. كما تتعلق بالمضامين التي يشتغل عليها، والمهام الشكليّة والتعبيريّة المناطة بهذه التجربة، والسياق الذي انوجدت فيه.
من هنا، فإن الترميم ليس عمليه سهلة ولا بسيطة يمكن إسنادها إلى أي كان، بل هي عملية معقدة، تستلزم وجود جملة من المقومات والخصائص في المتصدي لها، أولها وأهمها، الخبرة، والدراسة، والمواد والأدوات والأجهزة، والمقدرة على الصبر والدقة، إضافة إلى الحساسيّة المرهفة، والإدراك العميق لطبيعة المهمة، والإيمان بأهمية وقيمة العمل موضوع الترميم.
عمليات جراحيّة
لم تقتصر عمليّة رعاية وحفظ العمل الفني والأثري، على المراقبة والترميم، وإنما استدعت هذه العملية (في بعض الأحيان) إجراء عمليات جراحيّة لهذا العمل أو ذاك، إذا تبين أن الترميم السطحي الخارجي لا يفي بالغرض، وإنما يتطلب الأمر، استئصال العطب من جذوره، كما يحدث مثلاً للأعمال الفنيّة المنفذة على الخشب والقماش ومواد وخامات أخرى، يمكن أن يأتيها العطب من الداخل. أي من صلب موادها، كالسوس الذي يفتك بالخشب، والفطريات التي يمكن أن ترعى القماش، وعروق التراب التي قد تظهر في الحجر والرخام، والتآكل الذي يطول البرونز والمعادن والبلاستيك والبوليستر ... وغير ذلك من المواد المركبة والصنعيّة.
في هكذا حالات، لا بد من إجراء فحوصات بالمجاهر والأشعة والتحاليل المخبريّة المختلفة، أي لا بد من تشخيص المرض، وتحديد ماهيته، وأماكن توضعه، ومن ثم القيام بعملية استئصال دقيقة له، دون تعريض حياة العمل الفني للخطر.
كنوز في خطر
أشار عدد من الخبراء في الأمم المتحدة مؤخراً، إلى أن الكنوز الفنيّة في الدول الاستوائيّة، عرضة للتهديد بسبب تغير المناخ الذي يمكن أن يُعجّل بتلفها، ذلك أن عالم الفن يتشكل من مواد تجذب الحشرات، وتفرز الفطريات، ويفعل فيها فعله المناخ. على هذا الأساس، يعكف الخبراء على دراسة إمكانيّة إيجاد سبل جديدة لحماية المقتنيات الفنيّة، من الكمية المتزايدة للفطر والحشرات التي تطول هذه المقتنيات. ولأن معظم التراث الفني البصري في العالم، مُنفذ من الألوان الزيتيّة على القماش أو الخشب أو الورق أو الجلد، والتي في ظروف الدفء والرطوبة الطويلة، تجذب العفن والكائنات الدقيقة والحشرات، وتتسبب في التعفن والتحلل. وما يزيد الطين بلة، أن الكثير من المتاحف (لا سيما في الدول الاستوائيّة) تفتقر إلى أجهزة التكييف لحماية المقتنيات الفنيّة (من رسوم ولوحات وتماثيل) من التغيرات المحتملة في الرطوبة ودرجات الحرارة. وهذه التغيرات (كما يؤكد الخبراء) سببها الرئيسي الإنسان، وقد أججها حرق الوقود (الأحفوري) الذي يسبب زيادة الموجات الحارة، والتغير في الأمطار الموسميّة، وموجات الجفاف والفيضانات. كما إن نقص الأموال التي تخصصها الحكومات للإنفاق على الثقافة، وسط أزمة مالية عالمية، يُشكل هو الآخر، مصدر قلق كبير على مستقبل الثقافة العالميّة، ما يستدعي المبادرة الفوريّة والسريعة، لاستنفار الطاقات والخبرات والإمكانات، لإنقاذ كنوز الثقافة العالميّة، سواء بالترميم وإجراء العمليات الجراحيّة اللازمة لها، أو بتوفير متطلبات حمايتها والحفاظ عليها وصونها من الأخطار كافة.