وبالتالي فلا يوجد هذان الجنسان السرديان دون حدث أو فاعل، ونطلق على الفاعل اسم الشخصية التي تتسم ولا شك بملامح معينة. تقوم الشخصيات عادة وضمن حبكة محددة بترتيب أمر ما « ومن المستحيل فصل تلك الشخصيات عن الحبكة، ومجرد محاولة ذلك أمر غير مجد، مثل محاولة الفصل بين الرقصة والراقصين في الباليه. تتكون الحبكة من شخصيات تكافح قوى الطبيعة، أو ضد كائنات بشرية أخرى، أو تعيش أزمة داخلية. وتنعكس طبيعة هذه الشخصيات من خلال هذه الحبكة في الأحداث « .) 1 (
والشخصية كائن خيالي يطمح إلى الوجود، وذلك من خلال كم كبير من العبارات والمفردات التي يخلقها المؤلف ويسوقها بطرق شتى وأساليب مختلفة سرداً أو وصفاً أو حواراً وما إلى ذلك، وبالتالي فهي تختلف عن الشخص الحقيقي ذي الوجود الفيزيائي والعضوي، وإن حاولت أن تشتبه به إنها توجد وتعيش في القصة والرواية فقط، ولا نجدها تسير في الشارع ولا نلتقيها في محطة الباصات أو القاطرات تتحدث إلى هذا الشخص أو ذاك، الشخص ذو وجود دائم متصل؛ والشخصية تظهر وتختفي بناءً على الدور الذي تؤديه، والغاية المرجوة من ظهورها. الشخص يمتلك حياته الخاصة الحميمية التي قد لا نعرف عنها شيئاً، حتى لو فكرنا أن نستعين ببعض الأجهزة الأمنية المتطورة التي تقدر أن تعد الناس الأنفاس، بينما الشخصية فهي مرئية بعيون المؤلف ومرصودة بأعين القراء، إن المنشئ يعرف كل شيء عن الشخصية، حتى لو تظاهر أحياناً بغير ذلك .
إن تكوين شخصية فنية في العمل السردي، مسألة صعبة وشاقة على غير ما يتخيل الكثيرون، فالشخصية مطالبة أن تتحرك في عالمها المرسوم حركة الأحياء الذين نعرفهم ونعلم بوجودهم بيننا، إن ملامحها الظاهرية والباطنية يجب أن ترسم بطريقة تقنعنا أنها- وهي الشخصية المتخيلة- تتفاعل مع الوسط الذي وضعت فيه؛ فهي تستجيب لهذا الباعث أو ذاك فتأخذ طريقها بناءً على ذلك وقد تصطدم بما شاء المؤلف أن تصطدم من عقبات فتواجه وقد تهزم وقد تنتصر وترفض هذا وتقبل بذاك كما لو كانت منا نحن البشر، والطريف أن المبدع الذكي –وانطلاقاً من فهمه العميق للشخصيات – نجدها تخرج أحياناً وترفض أن تطيعه؛ فقد كتب فرانسوا مورياك ذات يوم :» وما الروائي إلا رجل يطلق شخصياته في العالم، ويكلفها أداء رسالة من الرسالات. وكم من أبطال الروايات من يلبس مسوح الوعظ والإرشاد، ويقف نفسه على خدمة مذهب معين ويوضح ويفصل خوافي شريعة من الشرائع الاجتماعية، أو فكرة من الفكر الإنسانية، وينصب نفسه مثالاً يحتذى .
وكم من مؤلف يتنكب في مثل هذا المقام قواعد الفطنة والحذر، فشخصياتنا ليست خدماً لنا، فمنها من يتمرد علينا ولا يشاطرنا آراءنا، بل يرفض أن يقوم بنشرها أو إذاعتها. وإني لأعرف في شخصياتي، من يناقض آرائي مناقضة صريحة، كأولئك المتمردين على رجال الدين، فأحاديثهم يحمر لها وجهي خجلاً ولست أرى من المستحسن في شيء، أن يصبح بطل من أبطالنا لسان حالنا، فإذا خضع لما نرجو منه وأطاع، فذلك دليل في الغالب على أنه مجرد من الحياة الخاصة، وعلى أن ليس في أيدينا منه غير حطام ورفات. وكم من مرة ظهر لي وأنا أؤلف قصة من القصص، أن البطل الذي طالما فكرت فيه، وقدرت مراحل حياته في أدق تفاصيلها، لا يستجيب للمنهج الذي وضعته له، إلا وهو ميت فاقد الحياة، فإذا أطاعني فطاعة جثة هامدة. وكم رأيت على العكس من ذلك، شخصية من الشخصيات الثانوية فيها، ممن لم أخصه بأي شأن، ولا احتفلت به قط، يبرز إلى المقام الأول، ويشغل مكاناً لم أدعه إليه، ويجرني معه في اتجاه ما خطر لي ببال « (2) .
ولقد تغير وتطور كثيراً مفهوم الشخصية كمكون ومشكل سردي في بناء القصة والرواية في مئة السنة الماضية على أيدي مبدعي هذين الجنسين من جهة وأيدي النقاد.
من جهة أخرى وجوهر هذا التطور يتمثل في ضرورة الحد من غلواء الشخصية ومحاولة تضئيل دورها وتقليصه في النص السردي، بينما كانت في الرواية التقليدية مثلاً تعامل كأنها كائن حي له وجود فيزيائي : وبالتالي فلا بد من وصف ملامحها كاملة، وصوتها، وملابسها، وأهوائها وهواجسها وما إلى ذلك ولا بد لها من اسم، وحي تسكنه ومنزل، كما رأينا عند بلزاك وإميل زولا مثلاً وغيرهما .. لقد كانت الشخصية في الرواية التقليدية المشكل الأهم في بنية العمل « بحيث لا يمكن أن نتصور رواية دون طغيان شخصية مثيرة يقحمها الروائي فيها؛ إذ لا يضطرم الصراع العنيف إلا بوجود شخصية، أو شخصيات تتصارع فيما بينها، داخل العمل السردي. من أجل ذلك كنا نلفي كثيراً من الروائيين يركزون كل عبقريتهم وذكائهم على رسم ملامح الشخصية والتهويل من شأنها، والسعي إلى إعطائها دوراً ذا شأن خطير تنهض به تحت المراقبة الصارمة للروائي الذي كان يعرف كل شيء سلفاً، عن شخصيات روايته .... (3) .
ومهما كان الموقف من الشخصية في العمل السردي؛ تقليدياً جداً، أو متوسطاً يدعو إلى تقليص دورها والحد من سلطانها، فيحرمها بعض مالها ( 4)، أو مسرفاً في معاداتها يدعو إلى موتها تماماً(5)، فإنني شخصياً لا أرى قصة أو رواية يمكن أن تنهض بغير حدث وشخصية يسند إليها سواء كانت بشرية أم من غير البشر(مكنسة، جنية، عفريت، شيطان، كلب، ظواهر طبيعية، وغيرها ) .
ولقد تنوعت الشخصيات في النصوص السردية وتمايزت وتبلورت بشكل هائل وخصب، وحاول النقد لاهثاً أن يصنف ويبوب هذه الشخصيات، فجاء تصنيف معظم النقاد مبنياً على الصفات المتناقضة بين هذه الشخصية وتلك، فكان لدينا – على حد علمي- ما يلي :
-الشخصيات الرئيسية والثانوية – الفريدة والتقليدية – الثابتة والديناميكية – البسيطة والمعقدة – المسطحة والحادة – الجاذبة والمنفرة والتابعة – (6) وما إلى ذلك مما يطول الحديث فيه. ___________________
الإحالات :
إنريكي أندرسون أمبرت، القصة القصيرة (مصدر سابق)، ص327.
فرانسوا مورياك، الروائي وأشخاص روايته، ترجمة عادل الغضبان، مجلة الكاتب، ديسمبر 1952 ، ص(176-177)/ نقلاً عن د. محمد يوسف نجم، فن القصة – الجامعة الأمريكية ، بيروت، نشر دار الثقافة ص( 96-97) .
د. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية – بحث تقنيات السرد، عالم المعرفة 240 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت- كانون1 1998 ،ص86.
يطلق فرانز كافكا على بطل روايته “ القصر “ ، الحرف K ، وتحضى شخصية روايته “ المحاكمة “ بمجرد رقم يدل عليها .
من أصحاب هذا المذهب : ناتالي ساروت ، آلان روب غربيه ، ميشال بيتور ، كلود سيمون ، صموئيل بيكيت ، وليام بيرغوس .
انظر على سبيل المثال لا الحصر :
سمر روحي الفيصل، بناء الرواية(سابق)، ص(126-139) .
عبد الملك مرتاض، نظرية الرواية(سابق)، ص(99-102) .
أنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة(سابق) ص(339-3346) .