مؤخرا ولادة ائتلاف يساري وقومي جديد تحت اسم «الجبهة الشعبية» التي تضم رسميا اثني عشر حزبا مع وجود حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (جناح أحمد الخصخوصي) المطروح أن ينضم الى هذه الجبهة لتصبح متكونة من ثلاثة عشر حزبا.
وقد أعلن «حزب العمال التونسي» اليساري في بيان إن الجبهة الجديدة تريد أن تكون «بديلاً عن الاستقطاب المغشوش بين الائتلاف الحاكم والفصائل الليبرالية التي تدعي بحكم تواجدها خارج السلطة أنها تمثل بديلاً عن حكومة الترويكا».ولخص أهداف الجبهة في «تحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية في شكلها الشعبي وليست الديموقراطية الليبرالية التي لا تخدم، كما كانت دوماً، غير البورجوازية ورجال الأعمال والمتنفذين مالاً وجاهاً... وتحقيق المساواة والعدالة الثورية في كل مستوياتها سواء بين المرأة والرجل أو بين الفئات الشعبية وبين الجهات».
و تتفق مختلف حساسيات و مكونات المجتمع المدني في تونس، أنه من خلال بروز خلافات عميقة على أعلى المستويات حول قضية تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي مثلاً، أو في تحذيرات الرئيس المنصف المرزوقي من «ثورة ثانية»، إضافة إلى التشققات العديدة التي شهدها حزبا «المؤتمر» و«التكتل» والخلافات الواضحة داخل الترويكا حول القوانين الدستورية ذات الأهمية الكبرى.
فقد ازدادت الانتقادات لحزب النهضة الحاكم بسبب التراجع في حرية التعبير، تحت شعار رفض المس بالمقدسات، وتجريمه في نص الدستور الجديد باقتراح من حزب النهضة، الأمر الذي اعتبرته الأحزاب العلمانية و اليسارية و القومية بأنه يشكل انتكاسة وتراجعاً كبيراً في حرية التعبير، ويؤسس لإرساء رقابة شديدة باسم الدين ، ويمثل في الوقت عينه تحولاً في خطاب حزب النهضة، حيث كان قبل الانتخابات يتبنى «خطاباً مدنياً لإرساء دولة حديثة»، لكنه بعد ذلك تحول إلى «موقع أكثر ارتباطاً بالدين واحتكاره سياسياً».
و لم يقتصر الصراع بين حزب النهضة و مكونات المجتمع المدني الحديث على حرية التعبير، بل شمل الصراع أيضا ملف «استقلالية القضاء» في جلسة الثاني من آب الحالي في المجلس التأسيسي التونسي، إذ اقترحت لجنة التشريع العام، التصويت لإرساء هيئة جديدة عليا للقضاء. لكن ممثلي الشعب التونسي انقسموا إلى فئتين: الأولى متمثلة بـحزب «النهضة» ترفض إدراج كلمة «مستقلة» في صفات الهيئة، فيما الثانية تصر على الاستقلالية بكل معنى الكلمة للهيئة.
و تمتد قضايا الصراع بين حزب النهضة و المجتمع المدني إلى مجال تحرر المرأة، حيث أثار الفصل 28 من الدستور التونسي الجديد جدالا سياسيا ساخنا ، بسبب ورود كلمة «التكامل»بدلاً من«المساواة » في النص الذي يقول «تضمن الدولة حماية حقوق المرأة ومكتسباتها على أساس مبدأ التكامل مع الرجل داخل الأسرة وبوصفها شريكاً للرجل في التنمية والوطن»، وهو ما يتناقض مع المبدأ الذي تدافع عنه النساء التونسيات ألا وهو المساواة بين الجنسين . وقد اعتبر البيان المشترك لكل من «الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات»، و«جمعية النساء التونسيات للبحث والتنمية» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»، ومنظمات أخرى في 4 آب2012، أن «إقرار الفصل بصيغته هذه يشدّ الشعب التونسي إلى الوراء»، مطالباً بسحبه. كما اعتبر البيان أن الصيغة المطروحة «ضرب للمكاسب وتكريس لمنظومة ابوية تمنح السلطة المطلقة للرجل وتسلب المرأة حقوقها بوصفها مواطنة كاملة الحقوق وتتمتع بالشخصية القانونية » .
وتعمقت الخلافات بين حزب النهضة و مكونات المجتمع المدني الحديث حول طبيعة الدولة التي يجب بناؤها في مرحلة ما بعد الثورة ، هل هي دولة مدنية ديمقراطية تعددية، أم دولة دينية، لاسيما في ظل رفض حزب النهضة الانتقادات الموجهة إليه، متكئاً في ذلك على الشرعية الانتخابية في صناديق الاقتراع التي حظي بها، و التي منحت حكمه « شرعية ثورية »تقوّض مناورات المعارضة الديمقراطية ، التي تركز هي الأخرى على الدور الهامشي للإسلاميين في الحراك الثوري نفسه، والتقليل من أهمية خلاصات الصناديق الانتقالية.
في ظل هذه التجاذبات السياسية الحادة، ترى الأحزاب و التنظيمات اليسارية التونسية أنّه بعد الانتخابات اتضح أن الحكم الحالي مازال يعمل بنفس آليات النظام السابق ويكرّس نفس العلاقات مع القوى الأجنبية من خلال تجديد التحالفات وآخرها الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة وتكريس الاتفاقيات المشتركة مع الاتحاد الأوروبي. كما تمت ملاحظة التوجه الليبرالي في السياسة الاقتصادية للحكومة التي يرأسها السيد حمادي الجبالي ، ما يعني حسب تعبيرهذه القوى اليسارية و القومية أنّ هذه الحكومة تسير في الاتجاه المعاكس لأهداف ثورة 14 جانفي.
انطلاقاً من هذه الرؤية، تؤكد الأحزاب و التنظيمات اليسارية و القومية التي شكلت مؤخراً «الجبهة الشعبية» على ضرورة التصدي لمشاريع الهيمنة المتجددة ،غير أنّ ذلك لا يمكن أن ينجح إلا بتكتل أكثر ما يمكن من القوى التي تطرح برامج معارضة للتوجهات السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة. وفي هذا السياق هاجمت «الجبهة الشعبية » حزب «النهضة» الإسلامي،وحزب «نداء تونس» المعارض الليبرالي الذي أسسه قبل بضعة أشهر رئيس الوزراء السابق الباجي قايد السبسي، وقالت إن التونسيين «لم يجنوا من ثورتهم سوى مزيد من التفقير والتهميش والاستبلاه والتسويف»، متهمة الحكومة بـ «السمسرة بدماء شهداء الثورة وجرحاها».وشبهت الجبهة الحزب الذي أسسه السبسي بـ «الحضن الناعم للتجمعيين (أعضاء حزب التجمع الحاكم في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي) وكل الفاسدين من رجال الأعمال».
ويجمع المحللون الملمون بالشأن السياسي التونسي أن «الجبهة الشعبية» ،تريد أن تكون خياراً انتخابياً ثالثاً في تونس التي تشهد حالياً استقطاباً كبيراً بين الإسلاميين ممثلين في «حزب النهضة»وحزب «نداء تونس،» ،لا سيما أن هناك عوامل عديدة تدفع بقوى اليسار لتوحيد صفوفها، في ضوء الهزيمة التي منيت بها الأحزاب اليسارية و القومية في الانتخابات الماضية و التي جعلت العديد من قواعدهذه الأحزاب تدفع نحو رص الصفوف لمواجهة ما تواجهه الساحة .إضافة إلى حجم التحديات الذي يبرز مع صياغة الدستور بما يهدد طبيعة المجتمع التونسي ،و ضغط الشارع الشعبي من أجل أن تتجاوز الأحزاب اليسارية و القومية انقساماتها غير المبررة، وغير المجدية، والتي اسهمت في تشويها، وفي عزلها عن الحراك السياسي القائم في تونس .
غير أن «الجبهة الشعبية» ينتظرها عمل كبير، لجهة توحيد أكثر ما يمكن من الرؤى بين أطرافها اليسارية والقومية ،إضافة إلى تعميق فكرة العمل الجبهوي واللقاء السياسي ،ثمّ بلورة رؤاها وبرامجها البديلة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوجيه رسائل واضحة للمجتمع التونسي ، وتقديم خطاب يطمئن القوى الداخلية صاحبة المصلحة في الثورة.فهذا العمل وحده هو الذي يفسح في المجال لتشكيل تكتل انتخابي يبرزقوّة هذا التيارالثالث ويعطيه أيضا فرص النجاح في الانتخابات القادمة.
ورغم بروز هذه الرؤية التفاؤلية، في ضوء التجاذبات السياسية الحادة التي ظهرت حول صياغة الدستور ، و التي بدأت تطرح من جديد موضوعة التحالفات سواء في شكل انصهارات أو أطر جبهوية ، فإن العديد من المحللين يرون أن ولادة جبهة تضم الأحزاب اليسارية و القومية تبدو صعبة و مترددة، من جراء عدم قدرة العديد من القيادات اليسارية و القومية على إجراء قراءة نقدية على مسارها السابق سواء ما قبل الثورة أو بعدها مما أنتج تغيرات في المواقف لم يصحبها بلورة لأفكار جديدة تؤِصل ما يمكن أن يكون قد حدث من تطور في أفكارها و برامجها ..وعدم إدراك البعض من قيادات اليسار إلى أن مهمة العمل الجبهوي في المرحلة التي ستسبق الاستحقاق القادم تتمثل في بناء جبهة عريضة سياسيا و طبقيا على أرضية منع قوى اليمين من الانحراف بالثورة الى بناء نظام يتناقض مع مقومات و مفاهيم الحداثة .
* كاتب تونسي