وخصوصية معتبرتين لهما الصفة المنظورة في العصر التاريخي، ولهما الحضور الثقافي، والحضاري الذي لا يتمكن أحدٌ من إنكاره في المعمور الإنساني وفي الزمن البشري المحدّد. ومَنْ لم يمتلك الفكرة المنقذة بالتأكيد ستخلو يده من مفاتيح التاريخ فلن يدخل إليه وسيبقى خارجه ولا تطوله حركة الزمان إلا بالمزيد من الانكفاء، والتراجع، والخذلان.
ونحن العرب في الزمن العروبي والإسلامي الباكر امتلكنا الفكرة التي دخلنا فيها التاريخ من أوسع أبوابه، وكانت أوروبا في العصر الوسيط تتكئ على العقل المبدع العربي وترسل إلى صقلية من يرغبون بالعلم، وكانت المدن حواضر للمعرفة، وفضاءات للمزيد من الحركة والإبداع، وتمجيد الحياة الكريمة الآمنة للإنسان الحر الآمن. وحين بدأ يتراجع مفهوم العروبة من الحياة العقلية عند العرب لتدخل مفاهيم لا تتعاضد معه بل تُقصيه، وتقدم الصفة الإيمانية عليه خلافاً لمقولة التقوى التي كان معمولاً بها أي لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى نعم حين تراجع مفهوم العروبة تراجعت معه القوى المبدعة لتخرج من صناعة الفكرة ومن البقاء في التاريخ فدالت دولة العرب، ودخل هولاكو منذ العام 1251م لندخل معه -كعرب- عصر الاستعمار المديد الذي دام قروناً طويلة، ولم تستطع فيه مفاهيم العروبة العودة إلى حقول الحياة إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بعد أن هزّتنا أضواء ثورة الأنوار الأوروبية، واستدركنا أن الظلامية العثمانية ليست مسلمةً لتواصل السيطرة علينا باسم الرابطة الإسلامية في ظل مبدأ خلافة عثماني، وبدأ التفتّح العروبي يشير إلى أن تغيير الرابطة ذاتها لتصبح في ظل مبدأ لا مركزية، واستقلال عربي ولا سيما في دخول الإمبراطورية العثمانية عصر الرجل المريض. وحين بدأت الجمعيات، والمدارس التبشيرية، والمؤتمرات تُبرز رابطة الانتماء الجديد لتظهر معها المشاعر القومية التي تمثل الشعور الجمعي الموحّد عند العرب، والفكرة المحررة من الظلامية المتخلفة عند العثمانيين قام الأوروبيون مباشرة بعقد مؤتمر كامبل بنرمان 1905-1907م ليقرروا فيه عدم السماح للعرب الذين بدأت نوازع التحرر من العثمانيين تنذر عندهم، والفكرة الجديدة التي تعيدهم إلى التاريخ أصبحت بين أيديهم عقيدةً جامعةً قائمة على مبدأي: الاستقلال، والوحدة العربية. نعم عدم السماح لهم بالتحقيق لفكرتهم المتجددة لكيلا يستعيدوا فيها الدولة القومية المفقودة منذ زمن هولاكو.
وبالأثناء سار النظام الدولي -آنئذٍ- نحو المزيد من التنافس والتصادم باعتبار أن الإمبريالية الأوروبية التي حققت الثورة الصناعية الثانية شرعت بتصدير رأسمالها إلى الأمم الأخرى وبدأت إرهاصات النظم البنكية تقود الأمم التي تمّ إليها تصدير رأس المال، وعلى منطق اقتسام العالم إلى مناطق نفوذ أوروبية حدثت الحرب العالمية الأولى من 1914-1918م وكانت نتائجها على حساب العرب حيث ظهرت فيها سايكس-بيكو 1916م وظهر فيها وعد بلفور 1917م ثم قرار عصبة الأمم بالانتداب الأوروبي على المنطقة العربية بعد أن جرى تقسيم الجغرافيا العربية بين الاستعماريين الأوروبيين الإمبرياليين. وأول نتائج الانتداب الأوروبي الفرنسي على سورية مثلاً كان البدء بتقسيم الجغرافية السورية إلى دول فشهدنا دولة جبل العلويين، ودولة حلب، ودولة دمشق، ودولة جبل الدروز. والذي نفهمه من هذا التقسيم هو أن الوحدة الجغرافية، والديمغرافية للشعب العربي ممنوعة إذ لو استعاد العرب وحدتهم المعروفة في التاريخ إذن ستعود أوروبا إلى مجالهم الحيوي كما كان الحال عليه في العصور الوسطى، ولذلك كان قرار كامبل بنرمان بمنع الاستقلال، والوحدة الشعار الذي اعتمده العرب في كفاحهم ضد الاستعمار العثماني المتخلف. وهنا قيل على لسان الروّاد العرب إن أطروحات اليقظة العربية أو أطروحات النهضويين قد فشلت في التحقق جرّاء دخول عصر الانتداب الأوروبي، ومعاودة العرب إلى النضال الوطني التحرري من جديد. والأمر المهم الذي يجدر بعلماء الاجتماع، والسياسة أن يُبرزوه في الوعي العربي عموماً هو أن المخططات الاستعمارية الأوروبية، والصهيونية والأميركية تنصبُّ دوماً على منظومة انقسام العرب وعدم السماح لهم باجتراح الفكرة المجمّعة التي تشكل بينهم عقيدة كفاح مشترك ورابطة مصير واحد، وعدو واحد محدّد معروف. ثم يأتي بعد ذلك التقسيم الجغرافي والديمغرافي ليُسهّل على الغرب المتصهين اقتسامهم غنائم حرب، أو أدوات استتباع بدون هوية، ولا هدف، ولا تاريخ.
وحين نستلهم هذا التاريخ بعقل عروبي عالمٍ بالسيرورة التاريخية التي أدخلونا فيها كعرب، وبمخططاتهم التي تواصل الإصرار على تجزئتنا، وضعفنا، واستنزافنا، وتحطيم إرادة العمل العربي المشترك وإخراج مؤسسات العمل العربي من قيادة النظام العربي لتصبح الجامعة العربية بدون قرار عروبي، وكذلك مؤتمر القمة بدون أهداف عربية حتى يتقرّر علينا كل شيء من الخارج، ويُرسم حاضرنا ومستقبلنا وفق المجال الحيوي لإسرائيل كيان العدوان، ويتحول عدونا من الحقيقي إلى الوهمي حتى تكون سيادتنا مفقودة، وحقوقنا موؤودة، وأحلامنا محدودة. وحين ننظر إلى سياسة التابعين الأعراب سنجدها دوماً على امتثالية ليس لها هوية ولا اتجاهات عروبية فأميركا همّها الأول نهب الثروة لديهم وهمُّهم حماية عروشهم بتقديم ثروات بلادهم لها. وأميركا تستهدف تدمير اليمن لما فيه من منازع عروبية لن تبدل أهدافها العربية بتابعية للكيان الصهيوني فينخرط العملاء بتدمير اليمن، وإيران جمهورية مستعدة لأن تنظّم للصفّ العربي الذي يُخلّص القدس، ولم تعد إسرائيل الثانية كما كانت على زمن الشاه إذن فلتدمّر إيران ولتنقلب إلى العدو الحقيقي ولتتحول إسرائيل إلى صديق يتبادلون العلاقات الدبلوماسية معها، ويخططون لناتو عربي بقيادتها، واليوم يتم تصفية القضية الفلسطينية في ورشة البحرين، وتتحول فلسطين العربية إلى عقار يبارع ويشترى، والقضية الفلسطينية إلى قضية استثمارات وليست حق شعب مغتصب ولم تجتمع الجامعة، ولا علاقة لمؤتمر القمة بمصير عرب فلسطين. وإذا تواصل الحال العربي على هذا المنوال فهل سيبقى للعرب أرض، أو وجود، أو حياة؟! وإذا كان الأعراب يوافقون على تدمير أي بلد عربي، أو اغتصاب ثرواته دون أن يتداعوا إلى البحث المشترك بالمصير لكيلا لا تغضب عليهم أميركا وإسرائيل؛ فما الذي سيبقى لكي نحلم معه لتبدّل الأحوال والعودة إلى العروبية كعقيدة مجمّعة ومشاعر المصير المشترك كفكرة مخلّصة ندخل فيهما التاريخ؟! وإذا كنا قد استمرأنا البقاء خارج التاريخ، فهل نحن أمةٌ جديرةٌ بالحياة؟! وهل هكذا توردُ يا سعدُ الإبل؟!