لنلاحظ أننا في الحالتين الحيوية والميكانيكية نحن أمام مفهوم المقاومة . هناك هجوم وهناك تصدًّ لذلك الهجوم . هناك تحدٍّ وهناك استجابة لهذا التحدّي.
ولنتذكر أنه يوم قام الصهاينة بغزو لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت عام 1982 كان هدف العدوان هو إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان , ووضع بيروت تحت سيطرة القوات الأميركية والفرنسية , والعمل على إخراج القوات السورية من لبنان , وفرض تسوية سياسية على لبنان تكون نسخة ثانية من اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر . وعدا عن المهمة التي قام بها فيليب حبيب في هذا السياق ونجم عنها خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت , فقد جاءت قوات أميركية وفرنسية لترابط في بيروت , وراحت الطائرات الأميركية تشنّ غاراتها على مواقع القوات السورية في جبال لبنان الغربية والبقاع . وقد بدا في ذلك الحين وكأن القوات الغازية قد نجحت في تحقيق غاياتها . ولكن ما حدث عملياً هو أن القوات السورية واصلت التصدّي لاعتداءات الغزاة , وأن مقاومة وطنية لبنانية تشكلت لتوجه للقوات الأميركية والفرنسية والصهيونية ضربات لم تكن تخطر لقياداتها على بال , ما أدى إلى مقتل مئات الجنود في ثلاث عمليات مباغتة: اثنتان في بيروت وثالثة في مقر القيادة العسكرية الصهيونية في صور . وكانت تلك العمليات هي فاتحة مسلسل من المقاومة المستمرة أجبرت الأميركيين والفرنسيين على مغادرة بيروت وهم لا يلوون على شيء , أما العدو الصهيوني الذي انكفأ جنوباً محاولاً الاحتفاظ باحتلاله لجنوب لبنان فقد اضطر عام 2000 للانسحاب هارباً بعد أن واجه مقاومة لا تلين استمرت ثمانية عشر عاماً . وحين جاء هذا العدو عام 2006 ليجرب حظه في مواجهة هذه المقاومة من جديد اكتشف أن ما حدث عام 1982 لم يعد ممكناً تكراره بعد الآن , حيث فشلت كل محاولاته لاختراق جنوب لبنان وإعادة احتلاله, بينما كان عليه أن يتلقى ضربات المقاومة اللبنانية في عمق فلسطين المحتلة .
ما حدث إذن هو أن العدو جاء ليقتل المقاومة فتسبب في نشوء مقاومة أشدّ . جاء ليحقق انتصاراً أو انتصارات , فجلب لنفسه هزيمة أو هزائم .
من الملائم أن نتذكر هذه التجربة بالذات , ونحن نراقب اليوم نتائج المحاولة اليائسة التي بذلتها القوى المعادية لأخذ سورية في شباك هيمنتها في مؤامرة كونية ساهم فيها الأغراب والأعراب :
- أرادوا إقصاء الرئيس بشار الأسد عن زعامة سورية فإذا به يصير خليفة جمال عبد الناصر كزعيم قومي في نظر الجماهير على امتداد الوطن العربي .
- أرادوا ضرب حزب البعث العربي الاشتراكي كممثل للتيار القومي , فإذا به وبالتيار القومي العربي معاً يكتسبان حوافز للنهوض والتجدد في مواجهة التحديات. ونحن نرى الآن كيف تتجمع القوى القومية وتتوحّد لمواجهة الأوضاع الطارئة في الوطن العربي .
- أرادوا ضرب قوى المقاومة من خلال ضرب سورية , فإذا نحن أمام مؤشرات تدل على أن المقاومة تتجه إلى أن تتحول إلى ظاهرة قومية . ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى أن الفلسطينيين الذين اعتادوا أن تتضامن سورية معهم عمدوا في الجزء المحتل منذ عام 1948 إلى تشكيل « اللجنة الشعبية الفلسطينية للتضامن مع سورية », ومثل هذا التشكيل في حدّ ذاته يمثل نموذجاً من نماذج المقاومة , وثمة تجمع وطني مماثل تشكل في الأردن , وثالث في تونس , وأما الشباب العرب فقد شكلوا « الجبهة الشبابية العربية للدفاع عن سورية « لتشارك فيها العديد من المنظمات الطلابية والشبابية العربية . وذهب اليمنيون إلى مدى أبعد في مواجهة التحدي فأعلنوا عن تشكيل « التجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة « ما يعني تحسّس الجماهير العربية لحاجتها في دعم خيار المقاومة ككل . ويبدو أن خيار المقاومة تحوّل أكثر من ذلك إلى حاجة قومية فسمعنا عن تشكيل « حركة المقاومة السرية العربية – حسم » , وبدا أن لهذه الحركة فروعاً في عدة أقطار عربية , وهو حدث يذكرنا ببداية تشكل المقاومة الوطنية اللبنانية في أعقاب التحدّي المتمثل باحتلال القوات الصهيونية لبيروت . وهكذا, فإن القوى التي جاءت لقتل المقاومة من خلال محاولة قتل إرادة دعم المقاومة في سورية تكون قد تسببت في تعميم المقاومة لتتحول إلى حراك عربي قومي , ومن يدري فربما تطوّر أيضاً إلى حراك إسلامي.
- أرادوا بمؤامرتهم على سورية إنجاز انتصار صهيوني – امبريالي أساسي يكون مدخلاً لتوجيه الضربة التالية إلى إيران كمقدمة لضرب روسيا والصين بعد ذلك وتحقيق الهيمنة الأميركية على العالم , وإذا بالمعركة في سورية تؤدي إلى إنهاء عهد القطبية الأحادية الأميركية ونشوء عالم متعدد القطبية .
وهكذا يتضح أن الصمود السوري في مواجهة الهجمة الشرسة قاد إلى جملة من النتائج البالغة الأهمية على مسار الصراع في الوطن العربي والعالم . وقد يؤدّي إلى نتائج أخرى تتكشف تباعاً في المرحلة المقبلة . لكن هذه النتائج لا تعني أن نطمئن أو أن نعتقد بأننا تجاوزنا مرحلة الخطر . فالفاعلية الثورية الناجمة عن مواجهة التحدّي يجب أن تستمرّ وتتنامى مقترنة بالجديّة المطلقة في إعادة بناء كل مؤسساتنا على نحو يكفل تقوية قدراتنا وتعزيز مناعتنا بما يمكننا من تلبية متطلبات النضال في المرحلة القادمة .