تناول فيها موضوعاً رئيساً هو الجسد الإنساني عموماً، والأنثوي خصوصاً، ضمن حالات ووضعيات مختلفة، تدعو جميعها، للتواصل مع الحضن الولود، المُغذّي، المُنمّي، الدافع للسباحة في تيار صيرورة الإنسان والحياة.
لقد اشتغل النحات شاهين على مواد وخامات فن النحت كافة، لكنه توقف عند خامتي الخشب والحجر الطبيعيتين: في الأولى تشارك والفنان الأكبر (الطبيعة) في إنجاز المنحوتة، والكشف عن قيمها التشكيليّة والتعبيريّة. وفي الخامة الثانية استنهض الجماليات البصريّة للجسد الإنساني العاري (لاسيّما الأنثوي) لأنها الأنسب لاحتضان هذه الجماليات، وتتقاطع معها في محاور عدة. فالحجر جاء من رحم الأرض التي تتشارك والمرأة في جملة من والوظائف والمهام. فمن الأرض ومن المرأة: تنبثق الحياة، وتتوالد مسببات استمرارها، لذلك هما صنوان في التضاريس والرموز والقيم النبيلة.
فقد كان الجسد الإنساني العاري (برأي النحات شاهين) أنسب مواضيع فن النحت، ومازال الأثير لكل النحاتين في العالم وشغفهم الأول، لأنه اللغة البصريّة الأقدر على التعبير عن الأحاسيس الاجتماعيّة للإنسان، وإظهار قوته، وحذاقته، ورقته، ورهافته. لهذا أدمنت أنامل النحات (قديماً وحديثاً) عملية تشكيل مرتفعاته ووهاده وثنياته، تدفعها إلى ذلك رغبات صاحبها وصباباته المثقلة بالوجد الحسي، والانفعال الوجداني، تجاه هذا الموضوع الحميمي، الوسيم، واللصيق بكيانه المادي والروحي، ذلك لأن الجسد طريق الروح وحاضن الحياة، وقد دلف النحات إليه، وعايشه بشغف كبير، وعشق مدنف، منذ اهتدت أنامله، لوسيلة التعبير بالكتلة والفراغ، ويبدو أن سفره في هذا الطريق سيكون أبدياً، لأن تناسخ الحياة وتجددها تتم في هذا الجسد ومن خلاله، من جهة، ولأن جمالياته الحسيّة لا تشيخ ولا يُشبع منها، الأمر الذي سيُبّقي أبصار وأشواق المبدعين دائمة الرنو إليها، والتعبد في محرابها.
واقعيّة بلا ضفاف
تنطلق منحوت شاهين من أساس واقعي تعبيري، لكنه لا يبقيها في حدود الشكل، وإنما يتواكب فيها الشكل والمضمون، فالحالة التعبيريّة التي تتلبس شخصيات منحوتاته، تتساوق مع صياغتها التشكيليّة، وتنعكس بوضوح على كتلتها، ووضعيتها، وطريقة بنائها، وملامس سطوحها، وهي بشكل عام تلتزم الواقعيّة الأكاديميّة، وتتحلل منها في آنٍ معاً. بمعنى أنها مبنيّة على النسب التشريحيّة الصحيحة والسليمة، لكنها مُختزلة وخالية من الثرثرة الشكليّة المُعيقة للتعبير ومتانة البنيّة النحتيّة التي يجب أن تأخذ حضورها الراسخ في الفراغ، ضمن تكوين معماري مستقر ومدروس من واجهاته الست.
يرى شاهين أن الفن بشكل عام، هو موهبة أو استعداد فطري، تُنضجه وتُنمّيه وتُبلوره، جملة من المعارف النظريّة، والخبرات العملية، تتكامل وتتعاضد وتتساوق، لتشكل في النهاية، شخصيّة الفنان المحتاج دوماً، للمزيد من الثقافة البصريّة والفكريّة، لتغذية منتجه الفني بالجديد شكلاً ومضموناً، وميزة الفنان - الناقد هي أن مهمته النقديّة، تحرضه وتدفعه لمتابعة نتاجات الفنانين، ودراستها وتحليلها للكتابة عنها، إضافة لمتابعته لكل ما يصدر من دراسات وكتب فنيّة محليّة وعالميّة، وهذا يُشكّل روافد تُغذي ثقافته النظريّة والبصريّة، بشكل دائم، وتجعله على تماس مباشر، مع حركة الحياة التي يجب على الفن أن يبقى لصيقاً بها، ودائم التواجد في محرقها، وإلا تحوّل إلى حرفة، محكومة بالتكرار والاجترار والجمود. الإشكاليّة الوحيدة التي تجابه الفنان - الناقد، هي كيف يطبق الروائز التي قاس بها أعمال الآخرين، على أعماله، بنفس الموضوعيّة والتجرد؟! هنا عليه أن يوازن بدقة بين (شخصيّة الناقد) و (شخصيّة الفنان) فيه. وهو شخصياً، يقوم بتغييب شخصيّة الناقد فيه أثناء قيامه بإنجاز العمل الفني، ويستحضرها بعد انتهائه منه، لتمارس دورها في تقييم الشخصيّة الأخرى التي عليها أن تماهي بين الموهبة والخبرة والعفويّة، لأن العمل الفني بدون العفويّة والإحساس والخيال، يتحوّل إلى معادلة رياضيّة باردة!
علاقة النحت بالعمارة
وحول علاقة الفن بالعمارة، يُشير شاهين إلى أنه كان للفن عموماً، وفن النحت خصوصاً، دور وظيفي في العمارة وتنظيم المدن، فالنحت في الأساس، ابن العمارة. أخذ منها العديد من قيمه الفنيّة الرفيعة، وأعطاها بالمقابل، كثيراً من قيمه الفنيّة والجماليّة، غير أن السمة الوظيفيّة، طغت عليه في العديد من الحضارات القديمة، ما حوّله إلى حرفة، أو صنعة، لاسيّما في حال تكرار النسخة الواحدة من المنحوتة، لتؤطر سياجا، أو تنوب عن عمود، أو عضاضة، أو إفريز، أو شاهدة قبر، أو مصدر ماء، أو رمز ديني، أو أي وظيفة أخرى في المنشأة المعماريّة. هذه الاستعمالات، أضعفت قيمه التعبيريّة والجماليّة، وأبرزت قيمه الوظيفيّة التزيينيّة أو الحرفيّة.
الابن الضال
بالمقابل، عندما انفصل فن النحت عن العمارة (كما يقول شاهين) واندفع يتخبط في دوامة التجارب والاتجاهات المختلفة، التي تخلت عن قيمه التجريديّة المعماريّة، في وسائل بنائه ودوره الاجتماعي الرائد، مات هذا الفن في المعابد والكنائس، وتجلت فيه فرديّة الإنسان بشكل مُبالغ فيه، كما أن اتجاهه للمبالغة في البحث عن وسائل تقانيّة جديدة، لا تنسجم معه، ولا تخدم أهدافه، كرّس توهانه عن القيم النحتيّة الرفيعة، واغترابه عن حقيقته ومهامه، فأصبح أشبه بالطفل الذي فقد أمه، وأمه هنا هي (العمارة) وفسحها المشغولة دوماً بحركة الناس، وهذا ما يجب التوقف عنده مطولاً، في عملية إعادة إعمار سوريّة القادمة، حيث علينا إعادة هذا الابن الضال إلى أمه، في التنظيم المعماري الجديد لمدننا وبلداتنا وقرانا.